حين يضيق الوطن فيصير بحجم زنزانة، وتتوسع الخطوط الحمراء لتصير حقلا من الألغام، ويتخشب الكلام إلى أن يصير بلا روح، ويصبح الصمت لغتنا الوطنية الأولى؛ يتملكني شعور كثيف بالخوف.. حين نحتاج تصريحا مسبقا من سعادة الوالي لنُجادل في الحرية، وحين تستنفر ندوةٌ فكرية شرطةَ مكافحة الشغب، وتُنصب الحواجز الأمنية في الشارع لمنع العبور، ويصير الكلام بضاعة مهربة، والاختلاف مؤامرة ضد البلد؛ أشعر فعلا بالخوف.. حين يصير الرأي الواحد عقيدة مقدسة، والتعددية الفكرية عصيانا وكفرا، وتصير حرية التعبير مرادفا لحرية المديح، وحقوق الإنسان مرادفا للصدقات، وتحترق الكرامة بضوء الصور، ويغدو الدستور لوحة تشكيلية لتسويق الزيف؛ تغُصُّ شراييني بالخوف.. حين تتنافس الأحزاب في التزلف والولاء، ويتحول الزعماء لدمى متحركة، ويصير البرلمان سيركا كبيرا، ورئيس الحكومة رجل إطفاء لحماية الاستبداد، والنخب صدى للصوت الواحد، وتصير الديمقراطية حفلا تنكريا؛ أكتظ بالخوف.. حين يتحول المُبلِّغون عن الفساد إلى متهمين ومجرمين، ويترقى الفاسدون في المناصب، ويصير ضحايا التعذيب مجرد مرضى بالتهيؤات والهلوسات، والجلادون مواطنون فوق العادة، وتُحبك التهم ضد الخارجين عن الإجماع بسيناريوهات رديئة؛ يستبد بي إحساس غامض بالخوف.. حين يتحول الصحفيون لناثري ورد في مواكب أعراس السلطة، ودجالين في مآتم الشعب، وملحقين أمنيين متخصصين في ديباجة التقارير عن معارضي النظام؛ ويتلذذون بذبح زملائهم بأقلام الزيف، ويرقصون فرحا فوق الجثث؛ أرتعش من الخوف.. وحين تصير الصفحات الأولى لجرائد الصباح نسخا دعائية متشابهة، وبرامج التلفزيون المسائية متخصصة في سرد المعجزات الخارقة، وحين تبدأ المقالات بعبارات الإشادة، وتختم الربورطاجات بالدعاء؛ أشعر باللا جدوى وبالكثير من الخوف.. حين يصمت المثقفون أمام انتهاكات الحقوق والحريات، ويتسلى الشعراء بحفلات التوقيع، وتصير الأغاني أسطوانة مشروخة، ويتسول الفنانون رعاية صحية، ويصير الحياد فلسفة، والصمت اختيارا جماليا، والخشب لغة أدبية؛ يتملكني صداع مزمن من شدة الخوف.. حين تنهار البيوت كورق اللعب، ويموت الناس كالحشرات، وتحتضر الأرواح ببطء تحت الأنقاض، ونكتفي بأخذ صور أمام الخراب، ونلفق التهمة للأقدار؛ يستبد بي الخوف، الكثير من الخوف..