يعيش الأمريكيون انقساما سياسيا قياسيا بين يوم الانتخابات الرئاسية ويوم تنصيب الرئيس الجديد جوزيف بادين. وحادت مشاكسات ترمب عن خطّ الأعراف المتداولة في نقل السلطة بين رئيس منصرف وآخر قادم إلى البيت الأبيض. غاب ترمب عن المشهد، ويثير خلفه أسئلة مفتوحة حول مصير الترمبية وتأثيرها على المشاعر القومية البيضاء، بعد تشبع جل الأمريكيين بخطر"الإرهاب الداخلي"، الذي يستقر بعد اقتحام مبنى الكونغرس في القاموس السياسي وفي خطاب الرئيس بايدن أيضا. وتثير محاكمة ترمب في مجلس النواب بانتظار استكمال الإدانة في مجلس الشيوخ أكثرمن سؤال عن مصيره القانوني بعد أن شدّد أكثر من مائة من أنصاره المتابعين قضائيا على أنهم اقتحموا مقرّ الكونغرس "تلبية لأمر الرئيس". غادر ترمب واشنطن باتجاه فلوريدا دون الإقرار بالهزيمة في الانتخابات، ولم يهنئ خلفه بايدن، بل يعتدّ بأن "لديه حركة، وهي في بداياتها"، وكأنّه حيوان سياسي بسبعة أرواح سيحقق مفاجآت في السنوات المقبلة. قبل خمسة أعوام وستة أشهر، وجدتُ في خطاب المرشح ترمب في نيويورك مؤشرات قومية انطوائية بشعاريْ "أمريكا أوّلا" و"استعادة عظمة أمريكا من جديد". هي قومية بيضاء عارضت قيم أمريكا التعددية العرقية وأمريكا التوافق مع بقية العالم، بل أرست بوصلتها الأيديولوجية منذ البداية باتّهام المسلمين ب"الإرهاب الإسلامي الراديكالي"، واعتبرت المهاجرين القادمين من المكسيك "مجرمين ومغتصبي نساء". وتوالى خطاب العداء والتطاول لدى ترمب على الإعلام والنّخبة والمؤسّسة السّياسية، بما فيها الكونغرس، ممّا تحوّل إلى مادة للمتابعة والتحليل انشغلتُ بها بشكل شبه يومي. فنحثتُ مفهوم "الترمبية"، وكنت سخيا في اعتبارها آنذاك "مشروع فلسفة سياسية" حتى إشعار آخر. وخلال سنوات ترمب في البيت الأبيض، حدثت عواصف سياسية في الداخل والخارج، وتعرضت قراراته لأكثر من اختبار، وزادت تداعيات كورونا منذ عام كامل في عسر الاختبار العملي أو الميداني لزعامة ترمب للولايات المتحدة، وهل تستحق أمريكا ترمب لقب "أقوى دولة عظمى في العالم". اليوم، تنطوي تركة ترمب على عدة نقاط استفهام، ومنها مستقبل علاقته بالحزب الجمهوري، ومدى قدرة المؤسسة السياسية على تصحيح المسار عندما ينجرف الرئيس إلى سلوكيات تنم عن رغبات سلطوية تتطاول على روح الدستور، أو ترفض قواعد التنافس السياسي الذي يمثل جوهر العملية الديمقراطية في بلد قام على تفادي الحروب الأهلية والانقلابات وتسلط الأنظمة الملكية كما كان في آوروبا في القرن الثامن عشر. بعد ترنّح ترمب مع نتائج الانتخابات وخسارته ستين من الطعون الانتخابية في المحاكم الفيدرالية والمحكمة العليا، ودعوته لمظاهرات استعراض القوة من قبل مؤيديه من القوميين البيض، إلى أين تتجه شعبية هذه الترمبية، وهل كان يستحق ترمب الاهتمام بترمبيته كمشروع فلسفة سياسية؟ الترمبية من حال إلى حال! يمكن تعريفها بأنها أيديولوجية قومية، أوحكم شعبوي ينازع المؤسسة السياسية وحتى الدستور، أو آليات حكم تسعى لتكديس القوة في يد الرئيس الخامس والأربعين دونالد ترمب. وتقوم على ثلاث مرجعيات كبرى: العرق والدين والقومية. وانطوت على عدة مفارقات ساهمت في تقلّصها مع مرور الوقت لكونها ارتجالية ومزاجية وأحيانا متضاربة بين موقف وآخر. ووصف البعض التصويت لصالح ترامب عام 2016 بمثابة تصويت على "التفاهة والبوقية" كملخّص لسياسة انفعالية ومترنّحة. واعتمد ترمب استراتيجية التّرويج الخطابي وهندسة تصوّرات ذاتية على أنّها "واقع قائم"، فيما يبقى السّجال مفتوحا حول علاقته مع الحقيقة واقترابه أكثر من الأخبار الزائفة والتضليل لقناعات أنصاره. وتوازى هذا المنحى مع رؤية جامحة عن مكانة أمريكا في العالم أو النفح في مقولة "الاستثناء الأمريكي". يمكن تعقّب روافد هذه القومية البيضاء إلى نشوة المحافظين عقب الفوز في الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتي في نوفمبر 1989، وتلويح الرئيس جورج بوش الأب بأطروحة "النظام العالمي الجديد"، ثم ظهور تكتل "المشروع من أجل القرن الأمريكي" عام 1997، وحثّه الرئيس كلنتون أكثر من مرّة على ضرورة تغيير النظام في العراق. وتعززت أيضا بتكتل المحافظين الجدد في بداية الألفية خلال حرب العراق، ثم ظهور "حركة الشاي" التي قاومت ترشيح باراك أوباما عام 2008 لانتخابات الرئاسة. ولا عجب أن يستقي ترامب ومن قبله ستيف بانون أفكارهما من أطروحة صامويل هانتنغتون لتبني فرضية اقتراب حقبة "الصراعات الحضارية". وقد أشار هانتنغتون إلى "الحدود الدموية" بين الحضارات الإسلامية وغير الإسلامية. وكتب يقول "هذه ليست الدعوة إلى الرغبة في الصراعات بين الحضارات، بل تقديم فرضية وصفية إلى ما قد يكون عليه المستقبل". أما بشأن حملة ترامب ضد المهاجرين غير الشرعيين خاصة القادمين من دول أمريكا اللاتينية أو خطاب الهيسبنافوبيا، فهو ينطلق أيض من الخلفية الفكرية ذاتها التي نظّر لها هانتنغتون في كتاب آخر بعنوان "من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكي" نشره عام 2004 بعد فترة ليست بالطويلة من هجمات 11/9. فحاول هانتنغتون ضرب ناقوس الخطر من أجل تبني سياسة حاسمة في سياق الأمن القومي وتركيبة الأمريكيين بين "نحن" (الأغلبية البيضاء) و "هم" (سائر الأقليات العرقية والدينية المتنامية في الولاياتالمتحدة). الترمبية... هندسةٌ سداسيةٌ! تناولتُ في كتابات ومحاضرات سابقة ستة أضلاع تفسّر طبيعة التحولات الاقتصادية والاستراتيجية والديمغرافية والثقافية التي ساهمت في وصول ترمب إلى الحكم في البيت الأبيض وإن افتقر إلى الألمعية الفكرية والحنكة السياسية: أوّلا، لوّح ترمب بالعدمية ومعاداة النخبوية في ظل مشاعر الإحباط بين فئات واسعة من الأميركيين بسبب التراجع الاقتصادي وتقلص الدخل الفردي بعد الأزمة المالية عام 2008. واتهم سلفه أوباما بالمسوؤلية عن التراجع الشامل للولايات المتحدة سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا في وجه الأمم الأخرى، وأنّ واشنطن غير قادرة على مواجهة تلك التحديات. وقال عن مناصريه إنهم يريدون "من يستطيع أن ينفخ النظام الحالي إلى الجحيم." فاتّهم المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس بتدبير "مؤامرة مدبّرة" ضد مصالح الطبقة المتوسطة، ودافع عن خطّه الشعبوي بأنه "الترياق الوحيد لعقود من الحكم المدمرة من قبل حفنة صغيرة من النخب هو ضخّ جرعة من الإرادة الشعبية الجريئة، في كل قضية رئيسية تؤثر على الدولة... لأنّ الشّعب على حقّ والنخبة الحاكمة دائماً على باطل." ثانيا، تبنّى ترمب خطاب الشعبوية كمدخل إلى ولايات العمق الأمريكي، أو الولايات الحمراء، من خلال لغة بسيطة لا تعلو فوق تضاريس لغة الشارع نتيجة حتمية لتلاقي عنصريْن أساسيْين: أوّلهما محدودية الثقافة السياسية لدى ترامب نفسه الذي قال إنّه لا يُطالع لا الكتب ولا الصّحف، وإنما يستمدّ معرفته بالشؤون الدولية من خلال متابعة بعض البرامج الإخبارية على شاشة التلفزيون. وثانيهما المستوى الدراسي والمعرفي لجلّ مؤيديه الذين لم يدخلوا الجامعة ولم يحصلوا على شهادات متقدمة. ثالثا، استندت الترمبية خلال فترة زخمها بين 2016 و2017 إلى الانعزالية السياسية والحمائية الاقتصادية كطوق نجاة موعود للأمريكيين والتركيز على الداخل في ضوء إعجاب ترمب بالرئيس الأسبق جاكسون وأيضا بالمركانتيلية التي كانت متبعة نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فاستمال ترمب قلوب وعقول المزارعين والعمال دون شهادة جامعية، أو من اختزلهم في خطاب تنصيبه، في عبارة "الإنسان المنسي"، وهم عماد الكتلة البشرية التي تناصره وسط انحسار شعبيته بين 28 و38 بالمائة. رابعا، تمثل معاداة المهاجرين الجدد وصناعة الآخر إحدى لبنات الترامبية، وتحمل في طياتها عدم ارتياح أغلب المحافظين اليمينيين من تزايد أعداد المهاجرين بمعدل مليون شخص كل عام. ونجح ترامب في تطبيع خطاب عنصري ضدّ المهاجرين سواء كانوا من العمال القادمين من المكسيك أو الفارين من ويلات الأزمة السورية تحت دواعي الخشية من وجود عناصر متطرفة أو جهادية بينهم. ولم تستقبل الولاياتالمتحدة سوى 1400 من اللاجئين السوريين فيما استقر قرابة تسعمائة ألف منهم في ألمانيا خلال عام 2015. فاعتمد ترامب سياسة الهوية وصناعة الآخر إلى حدّ أن سائر الأقليات تدخل في خانة "الأخر" لأنه عندما ينادي بضرورة استعادة عظمة أمريكا، فإنه عمليا يريد استعادة الصفاء الأبيض أو أمريكاالبيضاء ذات الأصول الأوروبية. وهو يسعى إلى تعميق الهوّة بين "الأنا" الإيجابي و"الآخر" السلبي". خامسا، أجج ترمب المشاعر القومية تحت غطاء الرّوح الوطني، وتعهّد بأنّ "أمريكا أوّلا ستكون الموضوع الرئيسي والأهمّ لدى إدارتي. ولكن لرسم طريقنا إلى الأمام، يجب علينا أولا أخذ فترة وجيزة نظرة إلى الوراء. لدينا الكثير مما يستحق أن نفتخر به." وصرّح في خطابه الأوّل عن حالة الاتحاد أمام مجلسي الكونغرس "أنا أمثّل الولاياتالمتحدة، ولا أمثّل العالم." وانطوت خطبه الحماسية على الشعور بالروح الوطنية المشتركة التي تتغدى على الشعور بالهوية المشتركة والتفكير الجماعي والتضامن وتضخ الشعور بالانتماء إلى فئة اجتماعية يقودها زعيم قوي. ثم تتحوّل تلك الروح الوطنية نفسيا وذهنيا إلى حبّ الذات الفردية لدى ترامب وحب الذات الجماعية لدى الجمهور كإحدى "القيم النبيلة" التي يتعين الدفاع عنها ضمن حملته على الكثير من المحظورات السياسية والاجتماعية، على الرغم أنها من تجليات تضخم النرجسية لدى "جيل الأنا" الذي يمثله ترامب. وتقول عالمة الاجتماع الأمريكية آرلي هوشيلد إن الترمبية تحيا فوق منطق السياسات العامة، وأنها توجد في مجال مشاعر السياسة أو dreampolitik realm of feelings .وتضيف الباحثة بذلك مفهوما جديدا إلى القاموس السياسي dreampolitik مقابل realpolitik أو الواقعية السياسية التي تتوخى تكريس القوة وتحقيق المصلحة بعيدا عن سياسة القيم moral politics. سادسا، تعهد ترمب بتصحيح خطايا الحزب الجمهوري، واتهم زعمائه بالاهتمام بمصالح الطبقة الثرية وأرباب العمل والمضاربين في وول ستريت بدلا من اعتماد رؤى استباقية تحول دون حدوث قطيعة مع الطبقة العاملة. ولا غرابة أن يجسّد نجاح ترامب فشل نخبة الحزب التي فاخر ترامب بأنه ليس منها ولم يتعاون معها، بل أراد أن يستولى على زعامة الحزب بحكم الأمر الواقع من أجل "تجفيف المستنقع" على حد قوله. وجسدت رئاسة ترامب أزمة حقيقية في مسار الحركة المحافظة، وتهاون الحزب الجمهوري العجوز الذي لم ينجب حفدة من السلاسة السياسية للنكن أو روزفلت أو ريجان. وظل قادة الحزب يرفضون الإقرار بتلك المشاكل فضلا عن التعثرات. هل تظل الترمبية قاطرة الحزب الجمهوري؟ ينقسم الحزب الجمهوري إلى أقلية تخشى على مستقبل الحزب من تأثير إخفاقات ترمب وأغلبية إما تعتد بشعبيته وتأثيره بين المحافظين أو تخشى انتقامه إذا جاهرت بمواقفها. غير أن تحريض أنصاره على اقتحام الكونغرس يعد لحظة مفصلية في أكثر من اتجاه. فقد انساقت هذه الترمبية خلف غرورها وسوء تقديرها من كونها حركة شعبوية قومية إلى حركة تتطاول على أهم مؤسسة دستورية في واشنطن باستخدام العنف السياسي. وأعادت إلى أذهان الأمريكيين رعب الجماعات الفوضوية والمليشيات المسلحة في حقبة دموية من التاريخ الأمريكي الحديث. فانكسرت سمعة واشنطن "المدينةالبيضاء على التل" ومنارة الديمقراطية الغربية، وتحولت هذا الأسبوع إلى مجسّم أمريكي يحاكي "المنطقة الخضراء" في بغداد بانتشار قرابة ثلاثين ألف من الجنود والشرطة مدججين بالسلاح. وعندما اقتربت الترمبية من الحركة الفوضوية، دخلت في مرحلة إخفاق أخلاقي فضلا عن انحسار سياسي منذ انتخابات الكونغرس عام 2018. يتعزز تحلّل قادة الحزب الجمهوري من صلتهم بالترمبية بموقف زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب حتى العشرين من الشهر الجاري، وعشرة من أعضاء مجلس النواب بانتظار أن تتسع جبهة المعارضة والابتعاد عن ترمب بين أعضاء مجلس الشيوخ عند بدء المحاكمة. وهي مرحلة تصحيحية ستزداد في الأسابيع المقبلة بقناعة الجمهوريين التقليديين بضرورة إحياء قيم لنكن وريغن وترميم البيت الداخلي للحزب. وقد يحتاجون إلى عملية جراحية لاستئصال ما أصبح ورما ترمبيا خبيثا بعد اقتحام الكونغرس ومحاكمة ترمب أخلاقيا وقانونيا وسياسيا. في المقابل، لن يقبل ترمب بهذا الوضع الجديد، وسيعاند بأنه زعيم حركة سياسية قوية وإن كان الملايين الأربعة والسبعين الذي صوتوا له في الانتخابات جمهوريون ومحافظون وتقليديون وليس بالضرورة قوميون أو ترمبيون. هم يدافعون عن مصلحة السياسات المحافظة والحزب الجمهوري في المقام الأول. وكلما أصر ترمب على عناده، سيجد نفسه على مقربة من ديفيد ديوك أحد أوجه اليمين المتطرف والذي سعى جاهدا لترشيحه من قبل الحزب الديمقراطي عام 1988، وأسس الحزب الشعبوي، ثم انقلب جمهوريا وفشل في انتخابات مجلس الشيوخ وأيضا لتولي منصب حاكم ولاية لويزيانا عام 1990. هي مؤسسة سياسية مرنة في واشنطن تقبل تجديد الدماء السياسية بالتباري النزيه، لكنها متمرسة بالحفاظ على روح الدستور والتصدي لدعاة التسلط أو التعصب أو الانقلاب على ما سنّه الأباء المؤسسون.