لأن معنويات دونالد ترامب في الحضيض، فقد اختار شعارا فتاكا لمعركته الجديدة: "طيح النفيو يطلع المورال"... الرئيس المكتئب بسبب خسارة الانتخابات، يرفض الاعتراف بهزيمته، ويتهم "الديمقراطيين" بالتزوير وسرقة أصوات الناخبين، رغم عدم وجود "مقدمين" في الولاياتالمتحدةالأمريكية! لم يسبق لسياسي أمريكي من عياره أن أنزل المنافسة الانتخابية إلى هذا المستوى، كأنه تأثر بأصدقائه من الرؤساء العرب، لا يريد أن يغادر الكرسي، رغم حكم الصناديق، ويستعد لمعركة استنزاف طويلة، الخاسر الأكبر فيها هي الديمقراطية. رغم أن كثيرا من "الجمهوريين" لم يتوقفوا عن "الرغيب" و"المزاوگة" و"رمي العار" عليه، لعله يتخلى عن عناده ويتصل بجو بايدن كي يبارك له الفوز ويطوي الصفحة، لكنه يصرخ كلما حدثوه عن "جو النعسان"، كما يسميه، ويهدد ويتوعد. حتى زوجته ميلانيا لم تنجح في إقناعه، رغم أن آخر الأخبار تقول إنها تلوّح بالطلاق إذا لم يلملم "الفضيحة" ويجمع "بّالزو" ويغادر "البيت الأبيض"! لسنا أمريكيين، لكن مصير دونالد ترامب يهمنا، من باب الفضول، والتشفي أحيانا، ولأن أمريكا هي أمريكا، إذا عطست تهتز الكرة الأرضية. مئات الملايين تابعوا المنافسة بين ترامب وبايدن، كما يتابعون مباراة في كرة القدم بين "البارصا" و"الريال"، وصفقوا للمرشح الديمقراطي عندما سجل ضربة ترجيحية حاسمة في بنسلفانيا، "وحقق فوزا تاريخيا على خصمه العنيد"، بلغة المعلقين الرياضيين، لكن الشغب يهدد الملعب، ومازال مشجعو الفريق الخاسر في الشوارع، يشككون في شرعية الأهداف التي دخلت مرماهم، وينتظرون نتيجة "الڤار"... الديمقراطية غنيمة تاريخية، يتقاسمها كل البشر، إذا استطاعوا إليها سبيلا. من لم يظفر بنصيبه، يكتفي بالنطر. لذلك تابع مئات الملايين عبر العالم، سباق الرئاسة بين بايدن وترامب، وفوجئوا بفيلم أمريكي طويل، مليء بالدروس والعبر، خصوصا نهايته. لأول مرة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية يرفض الرئيس المهزوم الخسارة، بكل ما يملك من عناد وجنون وشعبوية وسوء نية، ويستعمل كل الوسائل كي"يريّب الحفلة". هكذا دخل ترامب إلى التاريخ قبل أن يخرج من البيت الأبيض. رئيس مجنون، ضيّع لبلاده "الكودْ پّينْ"، ومازال عنده "كودْ" النووي، حتى العشرين من يناير المقبل. لاعب رديء جدا، لا يقبل الهزيمة. حين يخسر، يحوّل الحسرة إلى عداء ضد غريمه. النرجسية في مرحلة "الميتازتاز". يعرف أن السخافة لا تقتل، ولا يزعجه التناقض. جبهته صلبة، تصلح لكسر اللوز. يردد أن الاقتراع كان شفافا في الولايات التي ربح، ومزورا في الولايات التي خسر، دون أن يرف له جفن. المصيبة أن معه الملايين، ويصدقون كل كلمة تخرج من فمه! ترامب ليس مرضا. إنه الحمى التي تدل على المرض. الداء ينخر المجتمع الأمريكي من سنوات. المواطنون ذوو الأصول الإفريقية يعانون من العنصرية، والبيض في الأرياف يحسون بالتهميش، والانقسام يتعمق كل يوم. الشرخ استفحل داخل المجتمع الأمريكي، حتى أصبح يهدد السلم الأهلي، خصوصا أن الشعب مسلح، وورثة "الكوبوي" مستعدون للدفاع عن بطلهم بكل الوسائل. الشعبوي الذي يجاهر بذكوريته، واحتقاره للسود، ومعاداته للأجانب، حمَلَتْهُ إلى الرئاسة موجة ارتدادية عنيفة، سببها وصول أوباما إلى الحكم. أمريكا انتقمت من نفسها. ترامب هو الانتقام البشع من وصول رجل أسود إلى البيت الأبيض. انتقام أعمى، أوصل بلاد العم سام إلى المأزق الذي تحاول أن تخرج منه اليوم. مع ذلك، قدمت لنا الانتخابات الأمريكية دروسا كثيرة. في بلاد "واشنطن بوست" و"السي إن إن" و"أسوشيتد بريس"، يمثّل الإعلام سلطة حقيقة، وركيزة اساسية للنظام الديمقراطي. الصحف والقنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء لا تكتفي بتغطية السباق، بل تلعب دور الحكم، وتعلن اسم الفائز، تؤدي دور "وزارة الداخلية" أو"الهيئة العليا للانتخابات". وسائل الإعلام هي التي أعلنت فوز بايدن، بعد التوصل بنتائج الفرز والتشاور فيما بينها، وهي التي قطعت خطاب ترامب عندما بدأ يدخل ويخرج في الكلام، ويعلن نفسه فائزا، ويتحدث عن التزوير دون أدلة. حتى "فوكس نيوز"، المحطة المفضلة للرئيس المهزوم، أخذت مسافة معه، كما ابتعد عنه كل العقلاء في الحزب الجمهوري. الاستحقاق الأمريكي يدل، أيضا، أن الديمقراطية، بكل عيوبها، مازالت قادرة على ترجمة إرادة الشعب، من خلال صناديق الاقتراع، وأنها الوسيلة الأقل سوء للتداول على السلطة في العصر الحديث. الديمقراطية التي أنجبت مسخا اسمه ترامب في 2016، هي نفسها الديمقراطية التي لفظته في 2020، ووضعت مكانه رئيسا رصينا، عمره سبعة وسبعون عاما، مع امرأة من أصول ملونة.