إذا كانت الجزائر عبَّرت مع بداية السنة الجارية بطريقتها الخاصة عن استيائها من دفاع الحكومة الإسبانية اليسارية عن المغرب في المحافل الأوروبية والدولية من خلال رفضها في مناسبتين استقبال وزيرة الخارجية الإسبانية، آرانتشا غونثاليث لايا؛ فإن الرئيس الجزائري، عبدالمجيد تبون، يريد، اليوم، كسب ود إسبانيا بهدف تحسين صورته دوليا بعد رفضه من قبل الحراك الشعبي، وفتح السوق الإسبانية أمام الاستثمارات الإسبانية، خاصة بعد التداعيات الخطيرة لفيروس كورونا المستجد على الاقتصاد الجزائري الذي يحتضر بسبب تراجع أسعار وصادرات الغاز. هذا ما تؤكده معطيات رسمية وغير رسمية أوردتها تقارير إسبانية قبل وبعد الزيارة الرسمية التي قام بها بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الإسبانية، يوم الأربعاء والخميس المنصرمين إلى العاصمة الجزائر، رفقة وفد اقتصادي مهم. لكن المعطيات عينها تؤكد أن مدريد كانت بحاجة إلى هذه الزيارة لتحقيق مكاسب/مصالح ذات طابع اقتصادي وأمني بالأساس، وهناك من ذهب أبعد من ذلك بالقول إن سانشيز سافر إلى الجزائر، وإلى البرتغال السبت المنصرم، هروبا من مواجهة المشاكل الداخلية. فيما لا يستبعد أن تكون الزيارة، أيضا، محاولة من إسبانيا لتنويع علاقتها مع الجوار الجنوبي، وتجنب ربط مصيرها بالمغرب، إلى جانب دعوتها إلى حلحلة ملف الصحراء الذي عمر لأزيد من أربعة عقود، والذي عبرت بخصوصه عن موقف أقرب إلى الطرح المغربي من خلال تأكيدها على "مركزية الأممالمتحدة". من الخشونة إلى الود كان تعامل الدبلوماسية الجديد بقيادة الرئيس الجديد، عبدالمجيد تبوت، أكثر خشونة تجاه كل من يدعم المغرب، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع نهاية السنة المنصرمة ومع بداية الحالية، إذ بعد غضبها حينئذ على فرنسا وساحل العاج، سلكت النهج عينه مع إسبانيا، بحيث رفضت استقبال وزيرة خارجيتها مرتين. في هذا الصدد، كانت وزيرة الخارجية الإسبانية زارت المغرب يوم الجمعة 24 يناير الماضي، وكان من المبرمج، كذلك، أن تنتقل من الرباط إلى الجزائر في اليوم الموالي (يوم السبت 25 يناير)، لكن السلطات الجزائرية كانت ألغت الزيارة قبل ساعات، أيضا، من وصول وزيرة الخارجية الإسبانية إلى المغرب. ولقد كان، أيضا، من المبرمج أن تزور آرانتشا الجزائر الأربعاء 26 فبراير الفائت للتباحث مع نظيرها الجزائري صبري بوقادوم، حول آخر التطورات في المنطقة وبعض القضايا العالقة بين البلدين، لكن الخارجية الإسبانية فوجئت بتأجيل نظيرتها الجزائرية الزيارة في آخر اللحظات إلى يوم رابع مارس 2020. وفعلا، قامت آرانتشا بزيارة رسمية خاطفة إلى الجزائر، لكن كانت زيارة مجاملة لا غير. صحيفة "الكونفيدينثيال" الإسبانية قالت حينها إن السبب الرئيس لتأجيل الزيارة هو انزعاج الجزائر من السياسات الخارجية للحكومة الإسبانية بقيادة سانشيز حيال قضية الصحراء والدعم الكامل للمغرب داخل الهيئات الأوروبية. وتابع المصدر ذاته أن الجزائر غير راضية عن تنصيب إسبانيا نفسها مدافعا عن المغرب من داخل الاتحاد الأوروبي، ومرافعة محامي الدولة الإسبانية جنبا إلى جنب مع المغرب في قضايا الاتفاق الصيد البحري بين الرباط وبروكسيل المعروض على محكمة العدل الأوروبية. كما كانت مصادر إسبانية رجحت أن يكون سبب التوتر الإسباني الجزائري، في فبراير الماضي، قول آرانتشا إن هناك تنسيقا يتم مع المغرب بخصوص ترسيم الحدود البحرية. وبعد شهور، تحاول الدبلوماسية الجزائرية كسب ود إسبانيا من خلال اللعب على الورقتين الاقتصادية والأمنية. إذ إن زيارة سانشيز تأتي بعدما تحولت السواحل الجزائرية إلى بوابة رئيسة للهجرة غير النظامية نحو إسبانيا في غرب المتوسط، حيث حلت محل البوابة المغربية، وخير دليل على ذلك تضاعف تدفقات الهجرة من الجزائر إلى إسبانيا خمس مرات منذ بداية السنة الجارية. صحيفة "إلباييس"، المقربة من الحكومة الإسبانية، أكدت أن سانشيز ذهب إلى الجزائر بهدف تحقيق مكسبين استراتيجيين: الأول، إعادة فتح قنوات التفاوض بخصوص قيمة الغاز الجزائري الذي تستورده مدريد، لا سيما وأن هذه الأخيرة تطالب بمراجعة العقود السابقة، لأنه لا يمكن شراء الغاز بنفس قيمته السابقة بينما تراجعت أسعاره بشكل ملحوظ دوليا، علما أن نصف الغاز الذي تستهلكه إسبانيا تستورده من الجزائر. ثانيا، تتخوف مدريد من تفاقم أزمة الهجرة غير النظامية انطلاقا من الجزائر مع تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والصحية التي تعيش على إيقاعها الجارة الشمالية. واعترف سانشيز أن محاربة الهجرة السرية من جنوب المتوسط صوب أوروبا تنطلق من محاربة جذورها، شارحا: "يجب أن نعمل على أن يتم الشروع في خلق فرص التنمية الاقتصادية في البلدان المنشأ للهجرة، ولكي لا يقرر شباب في زهرة العمل الذهاب إلى أوروبا". وبيّن أن البلدين يرغبان في التعاون بخصوص الهجرة النظامية قبل أن يؤكد قائلا: "ما يجب علينا القيام به هو محاربة المافيات التي تتاجر بالبشر". سانشيز أعرب، كذلك، عن رغبته في مواصلة تعميق الروابط المؤسساتية والاقتصادية والإنسانية التي تجمع إسبانيا والجزائر، بحيث دعا إلى التعاون في مجالات معالجة النفايات، والطاقات المتجددة، والصحة والأدوية، والمشورة التكنولوجية والتواصلية. وأردف أن "المقاولات الإسبانية مستعدة للمساهمة في جهود الحكومة الجزائرية من أجل المضي قدما إلى الأمام في تعزيز الاقتصاد" الجزائري. الصحراء.. نزاع مجمد إذا كان بلاغ الحكومة الإسبانية لم يشر إلى قضية الصحراء، واكتفى بالتطرق إلى الأزمتين المالية والليبية؛ فإن سانشيز لمح في تصريحاته لوسائل الإعلام إلى هذا الملف من خلال الدعوة إلى حل النزاعات العالقة منذ عقود في المنطقة، والتي تعرقل الاندماج المغاربي. سانشيز قال إن الحكومة الجزائرية تلتزم ب"البحث عن حلول متوافق عليها إزاء الأزمات التي تضع استقرار المنطقة على المحك، وتراهن، أيضا، على حل النزاعات المجمدة التي ابتليت بها ساكنة المنطقة منذ عقود عدة"، في إشارة واضحة إلى نزاع الصحراء. وكان سانشيز أكد قبل أيام في خطابه السنوي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على "مركزية الأممالمتحدة" في حل النزاع، ولم يستعمل عبارة "تقرير المصير"، وهو الشيء الذي جعل البوليساريو تهاجمه عبر بوابتها الإعلامية. لكن كل المعطيات الآتية من الجارة الشمالية تؤكد أنها أصبحت أكثر توجسا من الانفصال الذي يهدد وحدتها، لذلك لا يمكن أن تدعمه في مناطق أخرى في العالم. ويظهر، كذلك، كما لو أن إسبانيا تعول على الجزائر من أجل المساهمة في حماية عمق أمنها الاستراتيجي في منطقة الساحل والصحراء، لا سيما وأن حضور الجيش الإسباني ازداد في المنطقة مقارنة مع السابق، وذلك بتحفيز فرنسي. وهو ما عبرت عنه الحكومة الإسبانية قائلة بأن: "الجزائر تعتبر فاعلا بارزا في النزاعات الإقليمية مثل النزاعين المالي والليبي، نظرا إلى موقعها الاستراتيجي"، مبرزة أن "السلام ليس حق شرعي فقط في هذه المناطق، بل هو مصلحة عامة كونية، لأن تداعيات هذه النزاعات تنتشر عبر الحدود، ويكون لها صدى يصل إلى كل الضفاف". وفي ظل الحديث عن إمكانية وجود أزمة صامتة بين الرباطومدريد، لا سيما في ظل مواصلة الإغلاق الشامل للمعابر الحدودية والبحرية بين البلدين منذ 13 مارس الماضي؛ يبقى المؤكد هو أن سانشيز زار المغرب في مناسبتين منذ وصوله إلى الحكم في يونيو 2018، إذ حط الرحال بالرباط في زيارة خاطفة يوم 19 نونبر 2018، ومراكش يوم 10 دجنبر من السنة عينها عندما شارك في القمة العالمية للهجرة. فيما زار خلال السنة الجارية كل من فرنساوالبرتغال- الجوار الشمالي الغربي- والجزائر وموريتانيا- الجوار الجنوبي الغربي.