محمد أبرهموش ينطلق المؤرخ التونسي حسين بوجرة، في عمليتي تفكيك وتركيب عناصر كتابه، مما حققته الإسطوغرافيا الأوروبية من تراكمات معرفية تهم واقع الطاعون والأوبئة، إلى المحاولات المغاربية في موضوع الأزمات الديموغرافية، ومن المصادر التاريخية إلى البحوث الحديثة. لقد اتّخذ بوجرّة مفهوم الطاعون، على حد قراءتنا، كواقعة اجتماعية كلية، تتمفصل وتتقاطع عندها المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فهو خيطٌ ناظمٌ لقضايا تاريخية، ذات أبعاد اجتماعية وبيولوجية، حيث إنّ الاهتمام بدراسة تاريخ الأمراض والأوبئة والطب، يساهم "في كتابة تاريخ المجتمعات الإنسانية، وتاريخ صمودها في وجه أعتى عامل بيولوجي، وهو المرض والموت مرضا". قارب المؤلف ظاهرة الموت الجماعي أو وفيات الأزمات بتونس والمغارب، خلال حقبة ما قبل الاستعمار، مركزا على أزمات وباء الطاعون، ليس فقط من الجانب الديمغرافي التاريخي، بل باعتبارها قضايا أثارت سجالات فكرية وخلافات نظرية فقهية وطبية، حين تحولت الوفيات الجماعية من ظاهرة عامة في العصور الوسطى إلى ظاهرة طاعونية بعد منتصف القرن الرابع عشر. إنه إشكال عميق يتطلب منهجيا، الانتقال من واقع الموت الجماعي إلى عقليات الموت الجماعي، مرورا بالسلوكيات والطقوس الجماعية، لإبراز الثّابت والمتغيّر في تاريخ الأوبئة والطواعين. يستمد هذا المنهج إطاره النظري من الكتابة التاريخية الحولياتية، لا سيما مع منعطف جيلها الثالث، جيل الأنثربولوجيا التاريخية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. كما يتضح ذلك مثلا في مشروع ومقاربة "ميشيل فوفيل" للموت وطقوسه وتمثلاته، عندما انطلق من الواقع الديموغرافي لرصد الذهنيات الجماعية وأشكال الخطاب مُرورا بشبكة الطّقوس والعادات الجنائزّية. في مراجعة التّحقيب التّاريخي اهتم بوجرّة في هذا الكتاب، بالأزمات البيولوجية وبتاريخ الطاعون وذهنياته في المغارب، على ضوء مقاربة استرجاعية، تنطلق من بداية القرن التاسع عشر وصولا إلى منتصف القرن الرابع عشر. قد يبدو هذا الأمد الزمني طويل جدًا، لكن طبيعة الموضوع تقتضي تمطيط الزمن التاريخي، وجعله أكثر بطأ وانسيابية، بعيدا عن التقطيع الكرونولوجي الصّارم المعتمد في التحقيب التقليدي. وبما أنّ أطروحة بوجرة تندرج ضمن التاريخ الاجتماعي والثقافي، فقد أثار إشكالية التحقيب التاريخي المغاربي المتداول، "القاضي بعدم تجاوز القرن السادس عشر باتجاه الخلف، إذا ما أردنا البقاء ضمن فضاء العصور الحديثة". ولأنه تحقيب متعال، لا يستحضر خصوصيات كل مجال، اقترح تحقيبا جديدا ينظر إلى الطاعون الجارف كلحظة مفصلية أدخلت بلاد المغرب إلى العصور الحديثة، على اعتبار أنّ المدونات التاريخية والفقهية لم تتجاوز ما تمت كتابته إبّان فواجع الموت الأسود. إضافة إلى استمرار نفس أساليب التعامل مع الطاعون،إلى حدود القرن التاسع عشر على الأقل، عندما شكل وباء الكوليرا وريثا شرعيا لوباء الطاعون الذي أخذ في التراجع والتقهقر. ويظهر من خلال متن الكتاب، بشكل عام، أن المؤلف قسم المساحة الزمنية التي اشتغل عليها، حسب أدبيات الطواعين، إلى حقبتين زمنيتين: حقبة أولى، ما بين القرن الرابع عشر ونهاية القرن الخامس عشر،خاصة مع كتابات الأندلسيين ابن خاتمة وابن الخطيب والمغاربيين ابن هيدور وابن عرفة. ثم حقبة ثانية، مع القرن السادس عشر واستمرت حتى بداية القرن التاسع عشر، من خلال تتبعه لأدبيات الطواعين والسجال الفكري الذي كان قائما في مجالي تونس والمغرب، حول قضية الاحتراز من الوباء والعدوى.