ترى، في أي لحظة بالذات تيقنت من أن الميدالية الذهبية صارت من نصيبك، خاصة وأنه أصبحت بينك وبين منافساتك مسافة تقدر بخمسة إلى ستة أمتار؟ نعم، كانت بيني وبينهن مسافة مهمة. وحين جاوزت خط الوصول، قلت لنفسي: «غير ممكن». ولما رفعت عيني، إذا بي أجد اسمي وقد دون باعتباري الفائزة بالسباق، وصاحبة الرقم القياسي الأولمبي (54.61). لاحظت أن المشجعين المغاربة كانوا يصرخون، بينهم عبد اللطيف السملالي، وزوجته، والحاج محمد بنجلون ومصطفى الزكري وعبد الرحمن المذكوري، وشخص آخر اسمه فوزي، توفي هو الآخر، رحمه الله، وكان يشتغل في ديوان الوزير، فضلا عن عبد العزيز المسيوي، الذي كان يعاني شللا في رجليه، ويستعمل العكازين لكي يتسنى له التحرك من مكان إلى آخر، قال لي حينها: «حين ربحت السباق، رميت بالعكازين معا، وشعرت بأنني مشيت من دونهما». تخيل معي هذا المشهد. في تلك الأثناء، كان السملالي، رحمه الله، يصرخ بأعلى صوته قائلا: «راه ربحتي»، فأسأله: «واش ربحت؟ باش عرفتيني؟ واش أنت متيقن؟». ويكرر: «نعم، ربحتي، هاكي الراية، وسيري ديري دورة شرفية». فأقول له: «ما يمكنش ندير دورة شرفية وأنا ما رابحاش. راني شفت جودي براون ربحات». ويقول لي مجددا: «لا، أنت اللي ربحتي، وغادي تمشي تعملي دورة شرفية». حتى ذلك الوقت، لم تصدقي أنك كنت صاحبة المركز الأول، والميدالية الذهبية؟ شيء غريب. وحين أخذت الراية المغربية، وجدتها ثقيلة جدا ويصعب علي حملها. ذلك أنني كنت متعبة للغاية. وبعد لحظات شعرت بأن «الكوليزيوم» كله يصفق مندهشا، ومتسائلا عمن تكون هذه العداءة، ومن أي بلد هي، وأين يوجد «موروكو»؟ وكيف تسنى لها الفوز؟ ووجد المنظمون صعوبة في نطق اسمي، حتى إن المعلق البلجيكي، فليب لو، عن القناة البلجيكية، والذي التقيته سنوات فيما بعد، حكى لي أنه ظل يردد: «المغربية، المغربية، المغربية»، دون أن يتمكن من نطق الاسم. وبينما راح يبحث في الأوراق التي أمامه، تبعثرت كلها. ثم قال اسمي بطريقة غير صحيحة. يلاحظ أيضا، بالرجوع إلى نهاية السباق، أنك كنت قريبة من السقوط، وكأنه سيغمى عليك، لولا أنك تمسكت بالأمريكية جودي براون. فما الذي وقع بالضبط في تلك الأثناء؟ كل ما هنالك أن الحامض اللبني فعل فعلته، بسبب الإعياء الكبير، فضلا عن الدهشة، وقوة المفاجأة. وكانت براون تقول لي حينها: «نعم، لقد ربحت. نعم، لقد فعلتها». ثم بعد ذلك، وقد قمت بالدورة الشرفية، والتُقطت لي صور مع بعض المعجبين والمعجبات، وحصل بعضهم على توقيعي للذكرى، إذ بالمكلفين بالكشف عن المنشطات يحيطون بي، كي أرافقهم إلى مكان الاختبار. قال لي أحدهم إنه يتعين علي أن أوقع لهم على وثيقة خاصة بالكشف، على أن يحصلوا مني على عينة، ستخضع للفحص، بعد ساعة من ذلك الوقت. بمعنى؟ معناه أنه يمكنني التقاط الصور والتوقيع على تذكارات، ومنح تصريحات صحافية، وغير ذلك، ولكن في حدود ساعة فقط. وأثناء ذلك كله كان المعنيون يحيطون بي، على سبيل الاحتراز. طبعا كانت لديك فكرة مسبقة عن الموضوع؟ طبعا. فكلنا كان يعلم أن هناك أشياء محرمة، وينبغي ألا نتعاطاها. بل أكثر من ذلك، كنا نعلم جيدا أن بعض الأدوية البسيطة، مثل «التقاطر» الخاصة بالأذنين أو العينين أو الأنف، ربما يكون من بعض مكوناتها ما يؤدي، في حال الفحص والاختبار، إلى ما لا تحمد عقباه، وبالتالي، كنا نستشير أطباءنا في الموضوع، حتى لا نقع في المحظور. كانت لحظات مثيرة جدا. والأكثر إثارة ما سيأتي لاحقا. ذلك أنني، وبينما أنا أجري دورتي الشرفية على الملعب، ويحيط بي المكلفون بكشف المنشطات، إذ بأحدهم يأتي إلي ليبادرني بالقول: «ملك المغرب يريد أن يتحدث معك». كيف كان وقع تلك الكلمات في تلك اللحظة؟ ما إن سمعته يقول لي: «ملك المغرب يريد أن يتحدث معك» حتى شعرت بدوخة، وسألته: «ماذا؟». كرر على مسامعي: «ملك المغرب، ملك المغرب». وكان يحمل الهاتف، ويتدلى من خلفه خيط طويل جدا، بحوالي خمسين مترا في اتجاه أسفل المدرجات. «منين دوزوه لي، ترفعت». ماذا دار بينكما حينها؟ كل ما أذكره أنني ظللت أردد: «الله يبارك فعمر سيدي، الله يطول عمر سيدي». وقال لي: «المغرب كله تهز.. راه الشعب المغربي كله في الشوارع.. كلشي فرحان.. وهدشي اللي درتي عمره يتنسى.. وهنيئا لك، وهنيئا لنا بهذا الإنجاز العظيم». وأكتفي بترديد: «الله يبارك فعمر سيدي، الله يطول عمر سيدي». في تلك الأثناء، كان من يحيطون بي مندهشين، لا يفهمون ما أقوله، ولا مع من أتحدث بالضبط. ثم جاء اللقاء مع الصحافة، أليس كذلك؟ تماما. جاء من يخبرني بأن علي الانتقال إلى القاعة المخصصة للإعلاميين، للحديث عن الإنجاز. وقلت لهم: «معذرة، فكل ما اشتغلت عليه طيلة الفترة الماضية هو التداريب الجدية والجيدة، تحضيرا لهذه المحطة المهمة، ولغاية الفوز. غير أن أحدا لم يخبرني أو يهيئني للحديث مع الصحافة. فلا يمكنني الحديث مع الصحافيين». وما زادني دهشة أنني، حالما غادرت الملعب، حتى وجدتني إزاء مئات من الصحافيين والمصورين في الانتظار. وإذا بي أقفل راجعة. إلى هذا الحد عجزت عن مواجهة الموقف؟ لم يكن ممكنا. فنفسيا لم أكن معدة للموقف. ولهذا أقول باستمرار إن نفسية الرياضي مهمة جدا. لذلك، يتعين تحضيره، ليس فقط بدنيا، بل ونفسيا وعاطفيا أيضا، وبالقدر نفسه. والدليل على ذلك أنني شعرت بحالة «شلل» تفوق تلك التي شعرت بها حين ولجت حارتي قبل السباق. لم أعد أقدر على المشي. وبينما تقدم الوزير السملالي، قيل له: «رجاء، نريد العداءة. نريد البطلة فقط». ثم إذا بهم يسألونني عن أشياء غريبة جدا، من قبيل: «ماذا عن الجمال وعن الصحراء؟ وهل لديكم تلفزيون؟ وهل لديكم رمال؟ وأين يقع موناكو؟». وأجدني أصحح لهم: «موروكو، وليس موناكو». ثم بدأت أستشعر الثقة بنفسي، وانطلقت في الكلام. فرحت أرد على الأسئلة بالعربية والفرنسية والإنجليزية. وبدل أن يتوقف اللقاء عند ساعة من الزمن، إذا به تجاوز الساعتين. ثم زرت «سي إن إن» و«إن بي سي» في محطتيهما المقامتين بالمقر الإعلامي للألعاب الأولمبية، ليستمر الحديث عن المغرب وعن العداءة المغربية التي أحرزت الميدالية الذهبية لسباق 400 متر حواجز. بالنسبة إلى اختبار المنشطات، هل أجريته قبل أم بعد ملاقاة الصحافيين؟ لم أعد أذكر، بصدق، فقد كنت في عالم من الخيال، وأنتقل من مكان إلى مكان في دورة بلا نهاية. وكانت ليلة أخرى بلا نوم؟ طبعا لم أنم تلك الليلة. وحين اتصلت بمدربي جان فرانسوا كوكان بفرنسا، اكتشفت أنه جن جنونه أكثر مني. وأذكر أنه سألني عمن هيأ لي وجباتي في ذلك اليوم، وعمن فتح قنينة الماء التي شربت منها. وقلت له: «اطمئن فرانسوا. فالحمد لله، كنت مؤطرة جيدا. ولا شيء لديك تخشاه علي». ثم قال: «نوال، أنا أسعد رجل في العالم. هل تعلمين أن «مونوفرار» (بادية جبلية فرنسية كنا نستعد بها في بعض الأحيان) انقلبت رأسا على عقب فرحا بإنجازك؟ زوجتي هيلين سعيدة للغاية. وقد كسرت شاشة التلفزيون نتيجة للجنون الذي أصابني فرحا بما تحقق. نحن سعداء بقدر لا يمكنك أن تتخيليه». ورحنا نبكي، أنا في لوس أنجلس، وهو وزوجته هيلين في «مونوفرار». هل كنت قد اتصلت بالأسرة في المغرب؟ كلا، لم نكن حينها نتوفر في بيتنا على الهاتف. فلم أتواصل مع أسرتي. وكنت أتساءل: «هل تابعت أمي السباق؟ هل شاهدني أخوتي؟ هل تابعني المغاربة؟ يا ربي يكونو باقيين فايقين، وشافوني. لست أدري كم الساعة الآن في المغرب». عندما بلغت البوديوم، وساعة التتويج، كيف كنت نفسيا؟ هل انتهت حالة الدهشة، أم كانت لاتزال مسيطرة على كيانك؟ أولا، هناك من تساءل: «من أي سماء سقطت هذه العداءة؟ وكيف تسنى لها الفوز بالميدالية الذهبية؟». والحال أن الأمر لم يكن عبارة عن مفاجأة، إذ إنني بدأت ألعاب القوى سنة 1976، وعبرت من تداريب إلى أخرى، ومن منافسة إلى غيرها، حتى بلغت بطولة إفريقيا، ثم بطولة العالم، والألعاب الأولمبية. وهكذا، راحت تلك السنوات ترتسم أمام عيني، مثل شريط يعبر في الذاكرة. وتذكرت، على الخصوص، أنني حرمت من أشياء كثيرة عندما كنت طفلة ومراهقة، بفعل الصرامة في التداريب، والتغذية، وغيرها. وكم من عيد ديني وغيره لم أحضر مع أسرتي للاحتفاء به. وحينها قلت لنفسي: «الحمد لله، أخيرا تحقق الحلم، وتوجت بالميدالية الذهبية». ثم بكيت؛ بل بكيت كثيرا، وقلت لنفسي: «لو كان معي أبي، لكان لهذا الحفل شأن آخر»، ثم استدركت، وقلت: «ولكن باقية دار الله». رحمه الله، فقد كان يحمل لي حقيبتي، ويحضر معي نهاية الأسبوع في التداريب. (تبكي بمرارة، وتترحم على والدها. ثم تواصل، بصوت متحشرج) وحين كنت على المنصة، تألمت كثيرا، وبكيت بمرارة. لم ينته كل شيء عند هذا الحد. فقد كانت لعودتك قصة تحكى. أليس كذلك؟ نعم، ذلك أنه، وبينما عاد أعضاء من الوفد المغربي إلى البلاد، طلب مني الوزير عبد اللطيف السملالي، رحمه الله، الانتقال من القرية الأولمبية لأظل معه وزوجته في الفندق. غير أنني رفضت ذلك، وقلت له إني أحب أن أبقى في القرية الأولمبية، حيث يوجد أصدقائي وصديقاتي، والمحيط الذي أشعر معه بالسعادة. لمن آلت الغلبة في الأخير؟ للوزير طبعا. فقد انتقلت إلى الفندق، وهناك أجرى معي صحافي اسمه الخوضي استجوابا هاتفيا، لفائدة الإذاعة المغربية، من غرفة السملالي. وطلبت العودة مع بقية الوفد، فقال لي الوزير إن علي البقاء لفترة. تكفلت بي، حينها، زوجته، رحمها الله، وهي سيدة فاضلة حملتني على جناحي الراحة، وعاملتني كما لو كنت ابنتها. قالت لي: «لدي ابنة اسمها آمال، وأنت أيضا ابنتي. ستظلين معنا، وسنعود معا، إن شاء الله، في طائرة أخرى». وبالفعل، فقد التحق بنا سعيد عويطة عندما وصلنا إلى باريس. وحين حطت الطائرة في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، كان وقع المفاجأة كبيرا جدا. «ما فهمتش. ما فهمتش. ما فهمتش»، فقد كان كل ما حولنا معدا بشكل خاص. وهكذا، قطعنا الطريق من المطار حتى المدينة في موكب خاص، ثم صعدنا سيارتين مكشوفتين، حيث جلست بجانب الأميرة لالة مريم، فيما جلس عويطة بجانب ولي العهد، حينها، الأمير سيدي محمد. ورحنا نجوب أهم الشوارع الكبرى، ونحيي الجماهير المحتشدة للاحتفاء بالإنجاز المغربي في الأولمبياد.