سجل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في مذكرته الأخيرة، وجود هوة فعلية بين النصوص، أي في الدستور والقوانين والمعاهدات التي صادق عليها المغرب، وبين الواقع المعاش في مجال حقوق الإنسان. ما هو تفسيرك لهذا الأمر؟ ما سجله المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مذكرته بهذا الخصوص وفي هذه النقطة بالذات مرده إلى أن المغرب يتوفر على العديد من النصوص القانونية المؤكدة والضامنة للحقوق والحريات، سواء ما تعلق منها بالدستور أو ببعض القوانين الإجرائية، وهي مسألة مهمة وخطوة أساسية، لكنها غير كافية، ولا يمكن أن تعتبر وحدها مؤشرا لقياس مدى احترام الحقوق والحريات، ذلك أن احترام حقوق الإنسان مرتبط بدرجة أولى بالممارسة اليومية لمختلف السلطات والمتدخلين في هذا المجال، وكل ما يمكن أن يسجل من خروقات يسيء إلى الملف برمته، بغض النظر عن القوانين التي تكون جيدة وضامنة للحقوق، كما أن الممارسة اليومية في كثير من الأحيان تكون غير منضبطة لهذه القوانين، وهو ما يشكل خرقا لها، وبالتالي، انتهاكا حقوقيا. لذلك، فإن إقرار القوانين، رغم أهميته، يبقى غير كاف، بل لا بد من إقرار سياسات عمومية وممارسات منضبطة له تحترم الحقوق والحريات الأساسية. وأظن أن جوهر المسألة في المغرب أننا أولا نحتاج إلى ملاءمة العديد من القوانين مع المواثيق الدولية ومع الدستور، لكننا نحتاج قبل ذلك ومعه إلى احترام الترسانة الدستورية والقانونية الموجودة التي فيها كثير من المقتضيات الجيدة، لكنها كثيرا ما تطبق بشكل سيئ أو يقع خرقها، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلا، في موضوع تسليم وصولات الإيداع للجمعيات عند التأسيس، رغم أن الفصل الخامس من القانون المنظم يضمن حق تأسيس الجمعيات، ويلزم السلطات بتسليم وصل إيداع ملف التأسيس بشكل فوري، إلا أن الممارسة تكاد تتواتر على خرق هذا المقتضى القانوني الواضح. وكمثال آخر على الهوة الموجودة بين القانون وبين الممارسة ما أقرته المادة 66 والمادة 80 من قانون المسطرة الجنائية من حق الشخص الموضوع تحت تدابير الحراسة النظرية، سواء في حالة التلبس (المادة 66) أو البحث التمهيدي (المادة 80) في زيارة المحامي خلال فترة معينة من مدة الحراسة النظرية، لكن هناك صعوبات كثيرة تواجه هذا الحق وتعرقل الاستفادة منه. ولو أردت أن أعدد الأمثلة على الحقوق التي يضمنها القانون المغربي في العديد من المجالات، لكنها في الواقع لا تجد طريقها إلى التطبيق، لما كفاني لذلك مجال هذا الحوار. لذلك، فإن التفسير الذي يمكن أن أعطيه لهذه الهوة، هو التردد الذي يطبع في بعض الأحيان عمل بعض السلطات العمومية في الذهاب بعيدا في تطبيق المقتضيات القانونية، كما أنه في بعض الأحيان يكون سلوكا فرديا لبعض القائمين على تنفيذ القانون، لكن، في المحصلة، فإن مسؤولية الدولة قائمة في فرض تطبيق المقتضيات القانونية، واحترام كل المقتضيات الحامية للحقوق والحريات. ما مدى ارتباط الوضع الحقوقي بالمناخ السياسي والمؤسساتي العام في الدولة؟ بطبيعة الحال، هناك ارتباط بين الوضع السياسي والمؤسساتي الذي يعيشه أي بلد وبين وضعه الحقوقي، وثمة انعكاس للمناخ العام الذي يعيشه البلد على واقع الحقوق والحريات، كلما كان هناك انفتاح ديمقراطي وتطور سياسي كان هناك وضع حقوقي أفضل، والعكس بالعكس، وفي حالة بلادنا الذي يعيش ديمقراطية ناشئة بطيئة تعرف مدا وجزرا، نجد أن ذلك ينعكس على وضعية حقوق الإنسان، وهو ما يجعل المنحى العام لحقوق الإنسان يعرف صعودا ونزولا، ذلك أن جزءا من الخروقات التي كنا نعيب بلادنا عليها خلال العشرية الأولى لم يعد موجودا، وفي المقابل، هناك تزايد لحالات التضييق على حرية التعبير والرأي خلال السنوات الأخيرة، خصوصا مع تزايد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي والدور الذي أصبحت تلعبه في توجيه الرأي العام، ما جعلها تكون موضع متابعات وتوقيفات. يذهب البعض إلى أن المغرب تأثر أيضا بالمد التراجعي في حقوق الإنسان نتيجة الاحتباس الديمقراطي الذي يتسم بعودة السلطوية إلى العالم. إلى أي حد هذا الطرح صحيح؟ المغرب ليس بمعزل عن العالم وعن تأثيرات الأوضاع الدولية والإقليمية المحيطة، وما نلاحظه في العالم، وخصوصا في الدول المحيطة، هو خريف أو احتباس ديمقراطي وتمدد للسلطوية، وطبعا سيكون كل ذلك مقرونا بتراجع في احترام حقوق الإنسان. ورغم أن بلادنا حافظت على نوع من التوازن في النظر إلى الأوضاع، وترفض أي تدخل خارجي في المشهد السياسي الوطني، وهذا يجب تسجيله والتنويه به، فإنه لا يمكن إنكار التأثر بالأوضاع الدولية والإقليمية، ولو كان ذلك محدودا. في السياق نفسه، هل يستقيم تفسير التراجع الحقوقي بالعامل الدولي ووجود ترامب في البيت الأبيض؟ السياق الدولي اليوم غير مهتم بشكل كبير بتطوير المنظومة الحقوقية وفرض احترامها، ولم تعد محددا أساسيا في تصنيف الأنظمة السياسية والتعامل معها، لكن، عندما يكون هناك تراجع حقوقي فلا يمكن تفسيره بعامل واحد، سواء كان خارجيا أو داخليا، ورأيي أن الوضع الحقوقي يتأثر بعوامل عديدة، سياسية واقتصادية، خارجية وداخلية، وكل تلك العوامل هي التي تعطي في المحصلة مكتسبات حقوقية أو تنتج تراجعا، لذلك، لا يمكن أن نرجع أي تطور في مجال حقوق الإنسان، سلبا أو إيجابا، إلى عامل واحد مهما كان مهما. تتوالى تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي تنتقد وضعية حقوق الإنسان في المغرب، خاصة في الآونة الأخيرة، فيما المسؤولون لا ينكرون الاختلالات المتفرقة، غير أنهم يبدون «استغرابهم» طبيعة هذه الانتقادات، ويشككون في مصادرها، هل يمكن بهذه الطريقة تعزيز الحقوق والحريات ببلدنا؟ مفهوم أن يرفض المسؤولون ما تتضمنه التقارير الحقوقية من انتقادات لحقوق الإنسان في المغرب، لأن هذه الانتقادات ببساطة تكون موجهة إلى هؤلاء المسؤولين وإلى السياسات العمومية التي يسنونها في مجال حقوق الإنسان، ولا أحد يمكن أن يقول إن المغرب اليوم هو جنة حقوق الإنسان وأنه لا توجد خروقات هنا وهناك تنتهك العديد من الحقوق والحريات، لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن أن ندعي أن المغرب هو جحيم لحقوق الإنسان، وأنه مازال يعرف انتهاكات جسيمة ممنهجة. الموضوعية تقتضي أن نقف على التطور الذي عرفه ملف حقوق الإنسان في المغرب خلال العقدين الأخيرين، مع الإقرار بالخروقات العديدة التي مازالت تسجل إلى اليوم، وتقديري، أن بعض التقارير تكون في بعض أجزائها مجحفة في حق المغرب عندما تضعه مع دول ذات رصيد أسود من الانتهاكات الجسيمة في مجال حقوق الإنسان، أو عندما لا تثمن التطور الذي عرفه المغرب. لكن، في المقابل، يجب ألا ننزعج من الانتقادات التي توجه إلينا ونتعامل معها بمنطق الإنكار والهجوم على المنتقدين، بل الأمر يقتضي تقبلها وفتح أبواب الحوار وتوضيح المعطيات بكل شفافية، وذلك ما سيجعل المنظمات الحقوقية تصحح ما يمكن أن يعتري تقاريرها من أخطاء. على ذكر المنظمات الحقوقية الدولية، يسعنا استحضار موقف الحكومة من تقرير «أمنيستي» الأخير، ومقارنته بموقفها من تقرير سنة 2014 الذي تحدث عن التعذيب، ألا تلاحظ معي أن الرد هذه المرة كان «انفعاليا جدا»، عكس السنوات السابقة عندما اعتمدت الحكومة أسلوب الحوار والتفاعل والتناظر ومحاولة الإقناع؟ ما الذي تغير في نظرك في غضون ست سنوات؟ وجه تقرير أمنيستي اتهاما مباشرا إلى السلطات المغربية باقتناء برنامج إسرائيلي للتجسس، واستعماله ضد بعض من سماهم «المعارضين»، وأن ذلك اكتُشف بناء على تقرير خبرة أنجزته أمنيستي، وهذا اتهام ليس سهلا في حق المغرب، وسيجعل المواطنين والفاعلين السياسيين والحقوقيين غير مطمئنين على معطياتهم الشخصية وعلى سرية مراسلاتهم والمكالمات التي ينجزونها، وشخصيا، لا أتصور أن يصدر هذا الاتهام دون دليل مادي دقيق وواضح ومعلن، وما طالبت به الدولة المغربية، بغض النظر عن الطريقة التي لم تكن موفقة في البداية، هو حق مشروع لها من أجل استجلاء أساس الاتهام الذي وجهته أمنيستي، وكان على أمنيستي ألا تتردد في نشر ما تتوفر عليه من أدلة، رفعا لكل لبس أو غموض، لأن الفاعل الحقوقي من مهمته رصد الخرق وفضحه، لكن قبل ذلك عليه إثباته والتأكد منه. لكن، يجب ألا يخرج موضوع أمنيستي والتعامل معها عن دائرة الحوار والتدافع وإبداء الحجج أمام الرأي العام، ولا يمكن أن نقبل التضييق على العمل الحقوقي المهم والكبير الذي تقوم به منظمة أمنيستي، ولعل البلاغ الأخير في الموضوع لرئيس الحكومة أشار إلى استمرار منطق الحوار، وهذا بالنسبة إلي أمر مهم ويجب دعمه والتنويه به. ألا يدفعنا هذا السياق إلى نقاش توصيات الإنصاف والمصالحة التي تأخر المغرب في تنزيلها، خصوصا ما يتعلق بالحكامة الأمنية؟ جزء من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة لم يجد بعد طريقه إلى التطبيق، وبقي ضمن مطالب الهيئات الحقوقية، وقد أشارت الخطة الوطنية لحقوق الإنسان إلى بعض الإجراءات المرتبطة بذلك، لكن، مازال هناك تأخر في هذا الموضوع وتردد يجب القطع معه. وطبعا، موضوع الحكامة الأمنية من بين أهم هذه التوصيات التي تحتاج إلى تفعيل. نحتاج اليوم في المغرب إلى إعادة النظر في القوانين المرتبطة بالمجال الأمني ودمقرطة المجال، وإقرار نوع من الشفافية في اتخاذ القرارات وربط المسؤولية بالمحاسبة، وفق ما يقره الدستور، وطبعا إقرار الرقابة البرلمانية على مختلف أوجه القرار الأمني. هل يمكن القول إن تجربة الإنصاف والمصالحة وتوصياتها لم تحقق ما كان منتظرا منها؟ تجربة الإنصاف والمصالحة كانت محطة مهمة في تاريخ المغرب، استطاعت أن ترسم صورة جديدة لمغرب ما بعد 2006 بكل موضوعية. كانت خطوة جريئة أقدمت عليها الدولة وانخرطت فيها الحركة الحقوقية بكل جدية ومسؤولية، والكثير من توصياتها وجدت طريقها إلى التنزيل، والذي وقع هو أن بلادنا، بالموازاة مع أشغال الهيئة وتوصياتها، عرفت بعض الانتهاكات التي كانت تؤشر على التردد الذي يطبع عمل بعض الجهات، كما أن جزءا من التوصيات بقي في الرفوف إلى حدود اليوم. وهذا طبعا لا يمكن أن يلغي العمل الكبير الذي أنجِز، لكنه لم يكتمل للأسف. نلاحظ أخيرا خفوتا في دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان في لعب دور الوساطة لحلّ ملف «حراك الرّيف»، الذي دخلَ مرحلة جديدة من التّعاطي الرّسمي، بعد حصول عدد من المعتقلين على عفو ملكي، وهو ما يمكن اعتباره توجها جديدا للدولة من أجل التخلص من هذا الملف الذي أرقها، ما السبب في نظرك؟ دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان مرتبط، من جهة، بالقانون المؤطر له، ومن جهة أخرى بتركيبة المجلس وبطبيعة القائمين عليه، وأي تراجع أو خفوت للدور الذي يقوم به، سيجد سنده في أحدهما، ولو رجعنا إلى القانون 76.15 الذي ينظم عمل المجلس، سنجد أنه أعطاه صلاحيات جديدة تمتد من رصد ومراقبة وتتبع أوضاع حقوق الإنسان وطنيا وجهويا، ومكنه من إمكانية الوقوف على الانتهاكات وإجراء التحقيقات والتحريات اللازمة بشأنها، وإنجاز تقارير بخصوصها، وإصدار التوصيات. كما أن له الصلاحية للتدخل كلما تعلق الأمر بحالة من حالات التوتر، والتي قد تفضي إلى وقوع انتهاك حق من حقوق الإنسان بصفة فردية أو جماعية، من خلال بذل كل مساعي الوساطة التي يراها مناسبة. هذا فضلا عن الآليات الثلاث التي أصبح يتوفر عليها المجلس وفق القانون الحالي، والمتمثلة في الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، والآلية الوطنية للتظلم الخاصة بالأطفال ضحايا انتهاكات حقوق الطفل، والآلية الوطنية الخاصة بحماية حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة. بمعنى، أن القانون الحالي يتيح للمجلس الوطني لحقوق الإنسان إمكانيات التدخل والفعل والتأثير أكثر من أي فترة سابقة، من خلال تلقي الشكايات وإجراء الأبحاث والتحقيقات وعقد جلسات الاستماع والزيارات لكل مراكز الاحتجاز والسجون، وإنجاز التقارير، وإصدار التوصيات، والوقوف على كل الخروقات المسجلة وتوثيقها، وإنجاز تقارير بشأنها. لكن، للأسف، لا نجد أن ذلك يطبق بالشكل الذي يعكس أهمية هذه المؤسسة والدور المنوط بها في الحماية والنهوض بحقوق الإنسان. بل الملاحظ أن دور المجلس تراجع مقارنة بالفترة السابقة، والتي لم تكن تشتغل بالقانون الحالي. وهذا التراجع سينعكس، بكل تأكيد، على كل الملفات، بما في ذلك ملف المعتقلين على خلفية احتجاجات الحسيمة، وسينعكس على المقاربة التي اعتمدها المجلس في التعامل مع الملف. وقد رأينا أن تغيير تركيبة المجلس انعكس على رؤيته للموضوع وتقييمه للأحداث والوقائع وما يمكن أن يكون شابها من تجاوزات وانتهاكات. لذلك، لم تعد هناك انتظارات كبيرة من المجلس الوطني لحقوق الإنسان في هذا الملف، خصوصا بعدما بدأ يعرف بعض الانفراج من خلال العفو عن العديد من المعتقلين، والذي نتمنى أن يستفيد منه الباقون.