وقعت الشاعرة الشابة حسنة أولهاشمي على ثاني أثر شعري لها، وهو موسوم ب"من عين البومة.. مر فرح صغير". إذ يمثل هذا الديوان، إلى جانب عملها الأول "بريد الفراشات"، علامة فارقة في مسار أدبي تشقه أولهاشمي بعمق وأناة ونظرة وجودية خاصة مستقاة من تجربة ذاتية برهنت الفترة الخاصة الراهنة مدى أهميتها في الحياة عموما. عن هذه التجربة تدور أسئلة هذا الحوار. يبدو أن فترة التوقف التي فرضتها الأزمة الصحية الحالية كانت حافزا عند كثير من الكتاب، خاصة الأدباء منهم. هل هي كذلك بالنسبة إليك؟ أم إن العزلة الراهنة هي استمرار لعزلة الكتابة الدائمة؟ إذا كان الروائي والمترجم الأرجنتيني ألبرتو مانغويل يقول: "أعطتني القراءة عذرا مقبولا لعزلتي، بل ربما أعطت مغزى لتلك العزلة". فأنا أقول إن العزلة هي جزء لا يتجزأ مني، وربما أضفت مغزى كبيرا على وجودي، في الفترة الحالية أغلبنا عاش التغيير المفاجئ والصادم في حياته بسبب الوباء، غير أن طريقة التعايش والتقبل والمواجهة اختلفت من شخص إلى آخر، ومجتمع إلى آخر، وبيئة إلى أخرى. والناجي هو من امتلك سر الإصرار لمواجهة ذاته أولا رغم حدة الإكراهات، وتمكن من تجاوز كل ضمور جواني يؤذي كل طاقة وقدرة ممكنة. فمتى تجاوزت الذات رعب تلاشيها تمكنت من العطاء وحاربت كل خفوت واضمحلال. أجل، الناجي هو من لدغ من جحر الألم مرات، لكنه استطاع في مرة واحدة فيصلية تدوير هذا الرهاب واستخلاص نسغ أمل وصمود وإقدام.. ففي فترة الأزمة الصحية، هناك من استطاع إيقاظ الهمة واستغلال فظاعة الزمان ورهبة الموت في ما يعود عليه بالفائدة والنور والإصرار. قطعا، هناك من كسر حاجز العتمات بإشراقات بديلة تحتفي بالمزيد من الحياة وتعلن عن صيرورة هذه الحياة وضرورة استمراريتها. في هذا الباب، نجد كثيرا ممن وظف عزلة الحجر الصحي في القراءة المضاعفة والكتابة المكثفة، والنهل من روافد العلم والمعرفة. حين نتتبع المناخ الثقافي العام، نلاحظ الكتب الوفيرة التي كتبت وأصبحت جاهزة للنشر والكثير من الإصدارات التي في طور الإنجاز أو الطبع، والمشاريع الإبداعية الفنية التي تتهيأ لتخرج للوجود مباشرة بعد فترة العزل المفروض. حركت العزلة الصحية أقلام عديدة وفتحت مواضيع متنوعة، أغلبها يحتفي باليومي الجريح ومعظمها تغشاه هالات النفسي الذبيح. إن كانت هناك فئة استطاعت تجاوز هول وتداعيات الحال، فهناك بالمقابل من تجرع مأساة العالم الصحية بسخط نفسي قاس وتذمر باطني مقلق، وتقوقع مخيف حول الذات وعزوف قاهر عما يجري خلف شاشات العالم، مما أدى إلى ارتفاع حاد على مستوى التعب النفسي، وقتل رمزي باطني انعكس على سلوكيات الفرد وغير قسمات الحياة.. عني، في فترة الحجر الصحي، وبما أن هذا الحجر ليس جديدا على برنامجي اليومي وحياتي المعتادة، لأنني أمارسه قسرا منذ سنين عديدة بفعل وضعي اللاحركي، أقول بما أن العزلة بالنسبة إلي رديف لوجود حي، وجود منبثق من انمحاء قائم، لكنه منذور لحضور خارج عن أزمنة مخنوقة بالأسى، عزلتي إن هي إلا انمحاء حميد، هي جسر لامرئي أعبر من خلاله إلى ضفاف لا متناهية حيث يتماهى سؤال الكينونة والطبيعة والآخر والجمال والإنسان.. عزلتي إن هي إلا يد من ضوء تحملني إلى أرض الجرح لأتعلم كيف أتعثر في تراب الحلم وأصنع من دم الألم لونا لوشاح المعنى وأنسج بشهقة الكلمات خلاصا إلى منافي الحرية.. أقول عني، لم يحدث بالنسبة إلي تغييرا قويا في علاقتي بالكتاب والقراءة والكتابة، فقط عمدت إلى تقبل عزلات أخرى وحاولت الاجتهاد في تدبير طاقتي لأتحمل معاناة جديدة حتما سيحس بها كل فاقد لاستقلالية جسدية أو حركية. هل كانت العزلة حافزا لي لأكتب أو أقرأ أكثر؟ أجيب أن الكتابة تتوهج في كامل صفائها يلزمها روح مصفاة من كل الشوائب، روح عارية، روح لا تؤمن بالشروط، الكتابة هي ذاك الحب الذي يحيا تحت الشمس ويتلذذ موته في كامل فداحات الوضوح. أحب أن أكتب دون شرط، وليس تحت أي ضغط، رغم أنني ألفت الكتابة في الزمن الصعب، ارتأيت في هذا الحجر أن أحضن فقط صغار عزلات وعزلات جديدة وكفى. ارتأيت أن أستمع إلى أنين هذه العزلات الصغار وأحسن الإنصات إليها وإلى العالم حولي وكفى. ارتأيت أن أعيدني إلي بقليل حذر وكثير دعة وسكينة. ارتأيت أن أرى نهاراتي تحتفي بميلادها من جديد في عيون أمي. ارتأيت أن أتأمل فرحا عابرا في تلويحة فجر، ارتأيت أن أكون أنا، فقط أنا.. هكذا قلت للألم. "من عين البومة.. مر فرح صغير" هو عنوان ديوانك الثاني. هل يمثل هذا الديوان تجربة مختلفة عن سابقه "بريد الفراشات"؟ وأي أسئلة يستقصيها هذا العمل؟ *** عند مواكبتنا لمسار الكتابة الشعرية في شكلها التجريبي وفي تجديد الخطاب الشعري نجد أن الشاعر في منجزه الشعري يحاول أن يسائل الذات، ويحاول أن يقرأ العالم حوله برؤيته وقلقه الإبداعي والوجودي، فحتما سيكون هناك تطور خافق في منجزات وإبداعات الشعراء، وهذا التطور الحاصل نلمسه فيما تكتنز به النصوص من اشتغالات جديدة، حيث يعنى بالزمن النفسي في الكتابة ويصبح النزوح إلى الاهتمام بالذات كوسيلة للكتابة الشعرية الجديدة وخلخلة مداراتها وتعريتها وسبر أغوارها بالاحتكام للسؤال الفلسفي حينا والالتقاطة الروحية حينا آخر.. هذا التطور تتداخل فيه عوامل ذاتية وموضوعية وتتشابك فيه عناصر تداولية وفنية وجمالية. هكذا، فمن الطبيعي أن يلمس القارئ تحولا وتطورا في بنية الخطاب الشعري وفي شكل الكتابة الشعرية وعمق الرؤيا.. مؤثرات عدة تتضامن في هذا التغيير والتطور، فتغتني حمولة النص سواء على مستوى المبنى أو المعنى. ديواني الأول "بريد الفراشات" هو قبس من جرح طويل ومكابر، هو الجناح الذي علمني التحليق البطيء في سماوات الروح الوجلة، هو الجناح السري للالتواء في حمرة نار المعنى، هو الطريق المتعثر المنذور للذة الاكتشاف.. وفي الديوان الجديد "من عين البومة.. مر فرح صغير" يد جريحة تواصل الركض، تستقصي، تسأل، تنقب عن جذور السؤال. في الديوان الجديد، تحضر أسئلة الذات الكاتبة لتغوص لتقرأ سر علاقتها باليومي وتتسلق منافي القضايا الصغرى والكبرى، تكشف عن قلقها النفسي، تحاور الهم الكوني وتحرر الوجع الإنساني، أسئلة كثيرة تهيج فعل الكتابة ومواضيع جمة تطاردها النصوص وتتلقفها رئة المعنى وتتنفسها اللغة.. في الديوان الجديد "من عين البومة.. مر فرح صغير"، تشق الكلمة ثوب وعينا الشقي، ترسل لحونها بكامل فرحها الطفولي لتطل عبر فجوة الإنسان على نداءات الألم المكابر، على تخوم الألم المتعالي.. الديوان يترك الكلمة للقارئ ليقتنص شهقات توزعت قبلا في نصوصه وقعتها صرخات الجسد والموت والفرح والوطن والحلم والحب والإنسان. كيف تفسرين هذا الارتباط في أشعارك بين الذات الكاتبة والعناصر المختلفة في الطبيعة (البحيرات، الحدائق، الأوراق، النجوم، السماء، الشمس...)؟ وهل هو التبرير الذي يفسر التوظيف المكثف للحيوان (البومة، النمل، الفراشات...)؟ عبر مراحل الشعر البعيدة حتى الآن، لا يختلف اثنان على أن الشاعر يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، وتحكم علاقته بالكون عامة وعوالمه الظاهرة والخفية عرى متينة تجعله يترجم سر ذاك الترابط في بوحه وأشعاره وكتاباته كلها.. بالنسبة إلى الذات الكاتبة في ارتباطها بالعناصر المختلفة للطبيعة أستطيع القول إن الشاعر كتركيبة منتزعة من حضن الطبيعة في الأصل والفطرة، فلا غرو إن تفتحت زهرة بصيرته الشعرية من الطبيعة وإليها، منذ ميلاد الإنسان تعلن الصرخة الأولى توليفة لحن صاخب، يتعالى كتوقيع وجودي تتلقفه أصابع الطبيعة لتعلن سلطة وسطوة الامتداد.. هكذا، فالعلاقة بين الإنسان والطبيعة هي علاقة حلول جارف، هي كينونة متلاحمة وبينهما تحيا أسرار لا حصر لها في الانكشاف والتجلي.. عني أقول إنني بحكم نشأتي بالأطلس كمنطقة جغرافية هائلة على مستوى التنوع البيئي، وثرائها الطبيعي، أجدني أقيم وجدانيا بشكل رهيب في دهشة ما يخفيه كل شبر لامسته روحي في سهل أو ربوة أو تل أو جبل أو نهر أو واد أو شمس وسماء، لا أجدني إلا مرابطة في حصون ذاكرة الأجداد والجدات وكل من مروا وعبروا في صمت، تاركين خطى أرواحهم في دندنات الرحل ونايات الرعاة، تاركين عطش الكلمات في حلوق الجداول، تاركين تلويحة حب على رسوم سجاد قديم، تاركين كبرياء الجياد عند متاهة التاريخ.. فانتمائي إلى الأطلس الخصب بجرحه وجماله لم يكن وحده عاملا رئيسا في العلاقة التي تربط الذات الكاتبة بعناصر الطبيعة، بل تداخلت دوافع أخرى، منها مثلا شغفي بالثقافة والحياة الأندلسية، فإذا كانت مدينة تيفلت هي مسقط الرأس، وفيها تشرب وجداني صمت الأحراش وولع الحقول وعناق المواويل وتوهج الشموس، فمدينة تطوان هي مسقط الروح، منذ طفولتي إلى مراحلي الآنية شدني ذاك اللغز المتسرب عبر شقوق بنايات وسقوف وحدائق وبساتين وعيون هذه المدينة العتيقة المسكونة بالحكايات والأساطير والفتوحات والتاريخ والعبق الروحاني.. كل تفصيلة في ذاكرتها تعيدني إلى ذاك المجد الأندلسي الضارب في السر، المكتظ بشهوق الجمال.. توسل نصوصي الشعرية بما تجود به الطبيعة يرتبط بكل هذا وأكثر من هذا. فالطبيعة بكل عناصرها هي صلة بين الذات الكاتبة وذاك السؤال الماورائي، ذاك اللغز الممتد بعيدا في العلياء، حيث تتقمص الروح عفويتها وصدقها ووجلها وارتباكها ورهبتها في الهناك البعيد، هو حتما ذاك الإجلال الروحي الصوفي الذي يجعل النص يتلوى في ضياءات البحث والسؤال والمكاشفة والتجلي.. عوامل كثيرة تجعل النص الشعري بالنسبة إلي ينتعش بعناصر الطبيعة أكثر. سأضيف إلى ما ذكرت ولعي المبكر بأعمال الشعراء السابقين الذين تفننوا في خلق النص الثري، النص المنذور لفوضى وترتيب الكون، النص العاصف الماطر المشرق المتصدع بلعبة المجازات، المكتوي بلعنة الجراحات المجيدة، من الشعراء الذين بصموا في روحي نشوة الشعر الملسوع بلذة الطبيعة المنحوت بعناصرها بفن ودربة أستحضر الشاعر بدر شاكر السياب والشاعرة نازك الملائكة. عن التوظيف المكثف للحيوان في النصوص أقول إن الكتابة الشعرية الجديدة وسعت نطاق الاشتغال وعمدت إلى توسيع ميكانيزمات الفكرة عبر العبور إلى توظيف عناصر مرافقة لهذه الفكرة، تسمح لها بمخاتلة جدليات شتى وخلخلة أمان الكلمات. من هذه العناصر نجد عنصر الرمز الذي يجعل المقروء مثيرا لتأويلات وإيحاءات لا متناهية تضمن للنص عمقه المرتجى ودهشته المبتغاة.. فحين نستل مثلا طائر "البومة" من بين سطور نص ما وكيف جاء محملا برمز قد خنقه في بعض الثقافات الشعبية وضيق فحوى إيحائه، إذ نجده يرمز في بيئتنا العربي منذ القدم، أقول إن هذا الطائر كان، وما يزال، يرمز إليه كنذير شؤم، ولا تتبعه إلا اللعنة والكدر والهم والحزن وباتت تلاحقه هذه السوداوية منذ العصور السحيقة حتى الآن، الشيء الذي يختلف تماما في ثقافات أخرى حيث نجد مثلا في الحضارة اليونانية أن رمزيات هذا الطائر تتوج إيحاءاته في لجة النور والفرح والشمس والسماء والحرية.. هذه المفارقة شدتني لأتوسل ببعض الحيوان في المنجز الشعري حتى يستفزني تلاقيها وصدامها في ثقافة وأخرى، وهكذا ارتأيت أن يكون النص عينا قابلة لتحريك سرها، ويكون شغف القارئ هو ماء البحث والسؤال. رغم سعي قصيدتك إلى تحقيق الدهشة والجمال، لكنها تعكس مشاعر الخوف والفقدان والوحدة والغربة والعزلة والغياب والفراغ (داخل الوطن في الغالب). كيف تفسرين هذا الاختيار المزدوج الذي تتركب منه قصيدتك؟ حين تحضر القصيدة، تصبح قدرا قُدر ووقع وكفى، فهي لا تترك المجال لترتب لها ظروف الميلاد، ولا تقبل أن تحسب لها أو تدقق في لحظات سطوعها، ومتى تشربت القصيدة صدق إحساسنا وشفافية حسنا، فحتما ستترجم مشاعرنا كما هي، دون رتوشات وهمية تجعلنا مجرد كلمات آلية أو كائنات جافة تتصنع وتختفي خلف الشعور المزيف، القصيدة تنمو فينا وفي لا وعينا، تخلصنا من ثقلنا متى تواطأت علينا المتاعب وتلاعبت باستقرارنا الآلام، تخلصنا من ضجيج ذواتنا فتجعلنا نقترب منا ونواجه عطبنا الداخلي بقوة أكثر، تجعلنا نواجه موتنا المتعدد في الواقع وفي الحياة، بالنسبة إلى نصوصي الشعرية وحضور تيمات كالموت والألم وطغيان مشاعر الحزن والفقد والغربة والغياب، هنا أقول إنه بيني وبين الكتابة لا توجد حجب أو جدران فاصلة، فما أعيشه من إرباك ولن أقول قهرا على المستوى الصحي بفعل المرض المزمن وبفعل اللاحركيتي- لكي لا أقول "إعاقتي" لما في الكلمة من انتهاك للتسمية- أقول ما أعيشه من معاناة حتما سينعكس شئت أم أبيت على ما أكتب، فلن ألبس دثار البطولات وأنفي هذا الجانب الحساس والمهم في حياتي. فالألم مضاعف حتما حين يصفعك الموت في كل الأرجاء، فتخذلك أوطان لامتناهية، كنت تخال أنها مرفأك الآمن حين تخونك خطاك، ليس يسيرا أن ترى الوطن يقتل أمامك هكذا بكامل تدفقه، فبالنسبة إلي الحلم وطن والحب وطن والحرية وطن، فإن تعذر علي أن أنعم بكل هذه الأوطان، فلا عزاء لي إلا في وطن كبير يسمح لي بممارسة وجودي وأنا في تمام جرحي وكبرياء موتي.. الكتابة.. هذا الوطن الكبير. هنا سأقف وقفة خفيفة، لكن وجب الإشارة إليها، وتخص المتتبع والقارئ، وقد تكون مطبة لا أتمنى أن يسقط فيها هذا المتتبع القارئ، إذ قد يطلق البعض حكما مطلقا على نصوصي مثلا كونها تتشبع بالتراجيديا السوداء فقط، بحكم وضعي الصحي القاسي كسبب وحيد وواحد، ويختزل سر المنجز الشعري بأكمله في خانة محددة سوداء، لا ننسى أن الشاعر هو إنسان، فهو، بالتالي، ذاكرة موشومة بحيوات عدة وجراحات بعيدة وبطفولة مرتجفة، حيوات تتداخل فيها رواسب التنشئة وطبيعة البيئة، المحافظة خاصة، وكل ما يعلق بالجذور من تشنج عرفا وعادات وقبيلة.. غير أنه لا يجب أن نخنق الألم في الكتابة الشعرية ونضيق حياة أبعاده، فحين أشرح جرحي على طاولة النصوص، فأنا حتما أستأصل إيحاءات فلسفية جمالية تضع ميلادات حية وجديدة في دم المعنى، ميلادات تحاور ذاك الألم ليصبح فكرة جديرة بالتحقق ويصبح الجرح حياة جديرة بالعناق، مادام هذا الجرح قابلا للتحرر والاختراق، وقابلا لبعث جديد في الروح في القيم والإنسان. في نصوصي الشعرية أحب أن أعيش الألم في كامل فرحي وأتلذذ موتي باقتناع، لن أختار الجمود والاستسلام، بل أحب أن أخوض المعركة بإصرار وأحيى ثورة الفعل. أفضل، بل أحب أن أخوض الطريق ولا أبقى جامدة. هنا أستحضر قولة فرناندو بيسوا حين يقول: "لا تحدق إلى الطريق، اسلكها".. إلى جانب كل ما ذكرت حول انعكاس الحزن حول كتابتي الشعرية، لن أغفل ما يكابده أي شاعر يتأثر بما يحصل حوله في العالم، فكغيري تضيع روحي بين كل رجة حاصلة هنا أو هناك، في زمن الحروب والمجاعات والإبادة الإنسانية وتوالي المآسي وكل أنواع الخرابات. فما بوسع الشاعر إلا أن يوقع اكتواءه بجرات أقلام يتشارك الفردي والجمعي الهم والقضية والمصير. يلين أحيانا في كتابة الشعر إلى السرد، حيث تأتي القصيدة عبارة عن حكاية. هل يحتاج دفق الشعر إلى هذا النفس السردي؟ أم إنه اختيار جمالي تقتضيه غاية تحقيق تقاطع الأجناس في الكتابة الشعرية؟ أم إن مواضيع الشعر هي التي تفرض المتخيل السردي؟ *** لا يخفى على متتبع الشعر عامة، والمهتم بقصيدة النثر خاصة، التطور الحاصل في البناء والشكل والتقنية والتيمات. لهذا، فالكتابة الشعرية تعدو في هذا الباب هي ذاك السيل الجارف الذي لا يسمح بعين وحيدة تقود كل ذاك الانهمار الكبير، وليتحقق الدفق الجمالي المبتغى يجب أن تتحرر القصيدة وتغتني بتقنيات وأساليب وتتسلح بمقومات تخدم وتضمن امتداد الدهشة ورحابتها، كل هذا لن يتحقق إلا بتناغم الرؤية بالبنية الداخلية الدرامية والحكائية والحوار والنفس السيري السردي، طغيان النفس السردي في نصوصي الشعرية تفرضه أولا تيمات الاشتغال ويفرضه المناخ العام للقصيدة. فهناك المواضيع التي تتطلب النفس السردي الحكائي والتصويري والفني الذي يلائم جوهر الفكرة وينسجم مع جمالية المنجز، وتتطلب متخيلا سرديا كفيلا بنزع الغطاء على الكلمات لتسكب وجدان وحرارة وشغف المعنى. الكتابة الشعرية لتحقق فتنتها وتضخ حياة النص المجيدة يجب أن تحيا ذاك الترابط والتلاقي مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى. هكذا، تستطيع القصيدة أن تفجر ذاك الصدام الباني لتحقيق فن وفلسفة وجدليات الجمال، ولا تقتصر على رافد وحيد منعزل لا يسمح بالتنعم بفوضى هذا الجمال.. فكلما تنوع النهل وارتوت القصيدة من شعاب مختلفة، كلما اكتسبت روحا شاسعة وحققت فرادة توقع بها مرورها غير المجاني وتترك بصمتها في الجمال الكوني والإنساني.