نحن الآن على بعد يومين من نهاية الفترة الثالثة من الطوارئ الصحية، التي نعيش تحت وطأتها منذ ما يقارب ثلاثة أشهر. وبين 20 مارس الماضي الذي دخلنا فيه طواعية غرفة الحجر الصحي الجماعي، واليوم، مسافة زمنية وثمن دفعناه عنقناعة مقابل حماية الصحة العامة، لكنه أقصى ما يمكن أن تتحمّله صحتنا العقلية والنفسية والاقتصادية. لا يمكن من يقوم اليوم بجولة خاطفة بين مغاربة الشارع الواقعي أو الافتراضي أن يتجاهل حجم الضرر بنوعيه، الماديوالنفسي، الذي خلّفته فترة الطوارئ الصحية على المغاربة، وأخشى أن كل تمديد لهذا الوضع الاقتصادي سيجعلنانسقط في وضعية ما زاد عن حدّه وانقلب إلى ضده. وقبل أي نقاش حول سلبيات وإيجابيات تمديد فترة الطوارئ، هل يعقل أن تقف حكومة بجلالة قدرها، وما يرافقها منمؤسسات وهيئات رسمية، كالمتفرّج أمام هذا الكم الهائل من الشائعات والأخبار المتضاربة والتسريب والتسريب المضادبشأن ما سيحدث بعد 10 يونيو؟ هل علينا أن نلجأ مرة أخرى إلى المقارنات المؤلمة، لنشاهد كيف تعبّر الدول عن حدّ أدنىمن الاحترام تجاه مواطنيها، وكيف ترافقهم في الدخول والخروج من الحجر الصحي، بما يتطلبه الأمر من معلوماتوتفسيرات ونصائح وتوجيهات؟ لقد صفّق الجميع لأسلوب التواصل الذي أدخلتنا به الدولة إلى غرفة الحجر الجماعي، واستبشرنا خيرا بالوجه الجديدالذي خرجت علينا به السلطة الترابية والمصالح الطبية والإعلام العمومي… لكن ما يجري هذه الأيام هو أقرب إلى الإهانةالجماعية، وإلا كيف نفسّر إعلان السلطتين التشريعية والتنفيذية برمجة جلسة مع رئيس الحكومة لمناقشة مرحلة ما بعدالطوارئ، يوم 11 يونيو، في الوقت الذي تنتهي فيه فترة الطوارئ الصحية يوم 10 يونيو؟ ما الذي تقصده مؤسساتالدولة برسالة من هذا النوع، وهي تعامل مواطنيها بهذا الاستهتار والاستخفاف بانتظاراتهم وحقهم في معرفة ما ستكونعليه حياتهم بعد أيام معدودات؟ إن هذا التجاهل وهذا التلاعب بالمشاعر يجعلان وطأة الحجر مضاعفة على المغاربة،وحين ترتفع الأصوات مطالبة برفع حالة الطوارئ الصحية، فذلك يعني أيضا رغبة في الخروج من نفق المجهول والضياعهذا. اليوم، ونحن على مشارف الشهر الثالث من حالة الطوارئ الصحية، لا بد لنا من إخراج دفتر الحساب والمقارنة بين كلفةهذا الإغلاق الاقتصادي الشامل والتباعد الاجتماعي المرهق، والكلفة التي يمكن أن يخلّفها استمرار الوباء. لا أحد يمكنهأن يسترخص حياة مواطن واحد، أو يدعو إلى التضحية بها في مقابل استعادة الإيقاع الطبيعي للحياة، لكن الأمر ليسبهذه الحتمية. فإذا كنا اليوم غير قادرين على استئناف حياتنا بالشكل الذي يحفظ الحد الأدنى من التوازن الاقتصادي،فليس لأن الوباء رفض أن يرحل، بل لأننا، دولة وقائمين على تدبير هذه الجائحة، فشلنا في مهمة الاستعداد وتداركالخصاص، ورفع مستوى تأهب المنظومة الصحية لاستيعاب الضغط المحتمل لاستمرار الوباء. لقد كتبت هنا قبل بضعة أسابيع مستشهدا بالنموذج الألماني في «الرقص مع كورونا»، أي الخروج من الحجر الشاملإلى التعايش مع فيروس لا يبدو إلى اليوم أنه سيختفي من الطبيعة. لم أدعُ حينها إلى الحذو حذو ألمانيا، من جهة، لأنناكنا في أجواء تعبئة وطنية لا تحتمل أي تشتيت للأذهان، ومن جهة أخرى، لأننا لم نكن لنستطيع الرقص مع الفيروس منالبداية كما فعلت ألمانيا، لأننا، ببساطة، لا نتوفر على منظومتها الصحية ولا على إمكاناتها، ولا على وعي شعبها بكلصراحة. لقد دخل الألمان تدريجيا وبشكل مبكّر، أي منذ فبراير الماضي، إلى الحجر الصحي مسلّحين بالكشف المكثف والتباعدالاجتماعي الذكي، ومنظومة صحية متينة منعت ارتفاع خسائر الأرواح. وعندما كتبت مستشهدا بالنموذج الألماني قبلأكثر من شهر ونصف، كانت دولة ميركل قد أعلنت لمواطنيها تفاصيل الخروج التدريجي من الحجر، والذي سيستمر إلىغاية نهاية غشت المقبل. هناك، على الأقل، يجد المواطن من يحترمه ويخبره بما تقرّر وما ينتظره، ويفهمه أن العودة النهائيةإلى الحياة الطبيعية مرتبطة بتعميم استعمال الأقنعة، وإنتاج 50 مليون قناع أسبوعيا، واستقرار مؤشر العدوى (Ro) تحت عتبة «1»… لكن، هل يحق لنا اليوم أن نستمر في سجن المغاربة داخل بيوتهم بدعوى الخوف على صحتهم، فيما حالتهم النفسيةتتدهور، وأزمتهم المادية تتفاقم، وحقوقهم المرتبطة بدورة اقتصادية طبيعية تضيع، وفرص عملهم تتبخّر؟ إذا كان الأمركذلك، فتفسيره الوحيد هو أن القائمين على تدبير الجائحة لم يكونوا في مستوى اللحظة، ولم يحسنوا استثمار الثقة التامةوالدعم المطلق اللذين قدّمهما المغاربة لدولتهم، سواء من خلال امتثالهم لإجراءات الطوارئ الصحية، أو بما قدّموهأشخاصا ومؤسسات من دعم مالي سخي لصندوق مواجهة كورونا، من أجل تدارك الخصاص المهول في المنظومةالصحية. لقد قمنا، نحن المغاربة، بملحمة وطنية حقيقية في مواجهة كورونا، دولة ومجتمعا، ولا يوجد أي حرج في الإقرار بذلك، بلهو مدعاة للفخر والاطمئنان. ويكفي أن ننظر إلى الأرقام الوبائية التي تجعلنا في مقدمة دول العالم من حيث التحكم فينسبة الفتك لدى هذا الفيروس الغريب، ويكفينا أن نشير إلى نجاحاتنا الباهرة في تجريب واعتماد وإثبات نجاعة العلاجالمرتكز على الكولوروكين، وحماية سيادتنا الوطنية في هذا المجال… لكن هذا كله لا يمنحنا الحق في الارتكان إلى الحلالذي يبدو سهلا حاليا، أي استمرار الطوارئ، فيما كلفته الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الصحية، قد تكون مدمّرة فيالمستقبل. لقد آن الأوان ليعود المغاربة إلى تحريك عجلة اقتصادهم ويخففوا العبء المالي عن الدولة، لكي تركّز إمكاناتها الحالية فيدعم المنظومة الصحية وتوفير أطقم الكشف وأسرة العلاج، وقبل هذا وذاك، لتحدّ من الخسائر الاقتصادية التي لن نشعربحجمها إلا بعد حين.