كشفت استجابة المغرب لأزمة كوفيد 19 على مفارقة واضحة، ففي الوقت الذي أظهرت فيه الدولة قدرة هائلة على تعبئة مواردها لمكافحة انتشار الفيروس – على الأقلعلى المدى القصير، فإن نظام الرعاية الصحية في البلد مازال يعاني من نقاط ضعف مزمنة إضافة إلى انعدام ثقة المواطنين الذن يرى معظمهم أن جودة الخدمات الصحية المقدمة جد منخفضة. كان للدولة قدرة هائلة على تطبيق إجراءات الإغلاق الحاسمة حيث استطاعت حشد قوات الأمن وموارد قطاع الصحة العمومية والدعم المالي للتخفيف من تأثير انتشار الفيروس على المدى القصير. تم تمديد حالة الطوارئ الصحية حتى 20 ماي. وعلى غرار الكثير من الدول الأخرى فقد بدأ النقاش حول تخفيف إجراءات الإغلاق. وفقًا للردود المستقاة خلال الاستطلاع الأخير للمعهد المغربي لتحليل السياسات فإن غالبية المغاربة راضون بشكل عام عن التدابير التي اتخذتها الحكومة لمحاربة فيروس كورونا حيث أعرب معظمهم عن ثقتهم في عمل الحكومة في هذا المجال. إن هذه النجاحات قصيرة المدى مثيرة للإعجاب، لكن المغرب مثله في ذلك مثل معظم الدول الأخرى اضطُر إلى التعامل مع مشاكل جسيمة في قطاع الرعاية الصحية والناجمة أساسا عن مظاهر صارخة لعدم المساواة في الولوج لخدمات الرعاية الصحية عالية الجودة: فهناك فجوة نوعية بين نظام الرعاية الصحية في القطاعين الخاص والعام إضافة إلى أن هناك تفاوتات جهوية تميز بين ساكنة المناطق الحضرية ونظيرتها في المناطق القروية، علاوة على أن غالبية السكان لا يتوفرون على تغطية صحية. كل هذه العوامل تساعد على تفسير انخفاض ثقة المواطنين في نظام الرعاية الصحية بالقطاع العام، فكما أظهرت نتائج استطلاع أجراه المعهد المغربي لتحليل السياسات مؤخرًا فإن المغاربة غير راضون عن نظام الرعاية الصحية في بلادهم ولا يثقون في قدرة هذا النظام على التعامل مع الجائحة. كما أظهر نفس الاستطلاع قلق المواطنين بشأن جودة الرعاية الصحية وأوجه التفاوتات الهيكلية التي يعاني منها نظام الرعاية الصحية. يعتمد المجتمع المغربي في محاولته للتغلب على هذه الأزمة على نظام سياسي شديد التمركز مكنه بالفعل من تعبئة الموارد الضرورية بسرعة لمواجهة الأزمة. لكن قدرة الدولة على مواجهة الأزمة ينبغي ألا تحجب المشاكل التي تعرفها المنظومة الصحية بالمغرب، بل على العكس من ذلك يجب الاستفادة من هذه الأزمة للشروع في عملية إصلاح كبرى لنظام الرعاية الصحية. لتناول موضوع المبادرة الجديدة المتعلقة بإصلاح هذا القطاع، ستُلقي هذه الورقة البحثية الضوء على أهم جهود الإصلاح حتى الآن وعلى أوجه عدم المساواة في نظام الرعاية الصحية، لنختمها ببعض الأفكار عن المغرب ومرحلة ما بعد كوفيد 19 وحول الأولويات الاستراتيجية لنظام الرعاية الصحية المغربي. التحسينات وجهود الإصلاح لقد عمل المغرب على تحسين الرعاية الصحية في العقود الماضية شأنه في ذلك شأن الكثير من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حسب منظمة الصحة العالمية، يرجع هذا التحسن إلى حد كبير إلى برامج الحد من الفقر والزيادات السنوية في الإنفاق العمومي على قطاعي الصحة والتعليم حيث ارتفع معدل الإنفاق على الرعاية الصحية في العقد الماضي ارتفاعا طفيفا على الرغم من انخفاضه فعليا كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي (انظر الشكل 2 أدناه). كما عرف معدل وفيات من هم دون الخامسة والأمهات إضافة إلى الأمراض المعدية انخفاضا كبيرا كما ونجحت الحملات الرامية إلى تحسين معدلات التلقيح ومكافحة الأمراض في القضاء على الأمراض المعدية مثل شلل الأطفال والملاريا والتراخوما والبلهارسيا. وفي الوقت الذي تم تسجيل انخفاض مشجع في معدل الإصابات بالأمراض المعدية ارتفعت نسبة الأمراض غير المعدية (مثل السرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية) حيث أن 75% من حالات الوفاة في المغرب تعود لأمراض غير معدية. أطلقت المنظمات الحكومية وغير الحكومية عددا من الحملات لمواجهة هذه المخاطر. فقد كانت برامج التنمية الوطنية والجهوية سمة من سمات السياسات الحكومية ومبادرات المجتمع المدني المغربي وهي تشمل برامج رعاية صحية كبرى. فعلى سبيل المثال، تعمل مؤسسة للا سلمى بالتعاون مع وزارة الصحة لجمع التبرعات وبناء البنيات التحتية الطبية اللازمة لدعم علاج السرطان والأبحاث ذات الصلة به. فضلا عن ذلك، أطلق الملك محمد السادس المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في عام 2005 بهدف تحسين الوضع الاجتماعي الاقتصادي للفئات الهشة بالمغرب، حيث تركز هذه المبادرة على تشجيع الشراكات المحلية والوطنية والدولية لإصلاح الحكامة وتحسين تقديم الخدمات وتعزيز التنمية البشرية . كما بدأت الحكومة أيضًا في تنفيذ عدة مراحل من برنامج الجهوية قصد تحسين توزيع الخدمات العمومية والخصوصية إذ تشكل لامركزية النظام الصحي جزءًا لا يتجزأ من هذا البرنامج. لقد رسخ الدستور المغربي لعام 2011 الحق في الرعاية الصحية في حين يعتبر البنك الدولي: “أنه، ومن حيث المبدأ، فإن الولوج لخدمات الرعاية الصحية الأولية العمومية المجانية حق مكفول للجميع. كما يحق لجميع المقيمين في المغرب الولوج لمؤسسات الرعاية الصحية الأولية العمومية والحصول على الخدمات مجانا”. أطلقت وزارة الصحة العديد من البرامج لحل المشكلة المركزية المتعلقة بضعف تقديم الخدمات. ففي عام 2007، على سبيل المثال، أطقلت وزارة الصحة مبادرة تعرف باسم "منافسة الجودة" لتحسين جودة الرعاية الصحية في المستشفيات العمومية ومراكز الرعاية الأولية. وفقا لدراسة حالة للبنك الدولي، فقد نتج عن عملية المراجعة الذاتية هذه والتحسينات في مجال التدبير وزيادة التمويل تحسينات في قطاع الرعاية الصحية الأولية. ومن أجل التصدي للتحديات المتعلقة بالحصول على خدمات الرعاية الصحية، هدفت العديد من الإصلاحات إلى زيادة ولوج المواطنين للتأمين الصحي، بما في ذلك المواطنين المحسوبين على القطاع غير المهيكل. يوجد في الوقت الحالي نظامان للتأمين الصحي الأساسي العمومي أولهما "التأمين الصحي الإجباري" والذي تم إطلاقه عام 2005 وهو نظام تأمين يعتمد على تصريحات صاحب العمل بعماله في كل من القطاعين العام والخاص والذي أصبح يشمل طلاب التعليم العالي بعد إصلاحات عام 2016. وفقًا لهيئة الرقابة على التأمين والضمان الاجتماعي فقد استفاد، منذ عام 2017، ما يقارب تسعة ملايين مغربي من التغطية الصحية عن طريق هذا النظام. أما نظام التأمين الصحي الثاني والمعروف بنظام المساعدة الطبية "راميد" فهو نظام يستهدف المواطنين ذوي الدخل المحدود ويشمل تغطية صحية للمواطنين العاملين في القطاع غير المهيكل. لقد بدأ العمل بهذا النظام عام 2008 وتم تعميمه على الصعيد الوطني عام 2012 حيث ساهم في زيادة التغطية الصحية زيادة كبيرة. لكن وبالرغم من توفير التأمين الصحي لأكثر من 8.5 مليون شخص إضافي عن طريق هذا النظام إلا أن هذه الأرقام ما زالت تكشف عن حقيقة مثيرة للقلق. فوفقا للمندوبية السامية للتخطيط فإن أقل من نصف المغاربة يتوفرون على تأمين صحي، كما أنه وبالرغم من الاستفادة من نظام التأمين الصحي راميد إلا أن هناك مشكلات كثيرة تتعلق بضعف جودة الخدمات الصحية المقدمة والتأخير في تلقي الرعاية الصحية. صادق مجلس الحكومة في أبريل 2018 على إحداث استراتيجية وطنية للقطاع الصحي تعرف باسم "مخطط الصحة 2025". وصف هذا المخطط على أنه استمرار، وليس بديلا لاستراتيجيات الرعاية الصحية للأعوام 2012- 2016 و2017-2021. من الناحية النظرية، خصص لهذا المخطط مبلغ 24 مليار درهم للاستثمارات في الرعاية الصحية (14 مليار لتحسين الطاقة الاستيعابية للمستشفيات و10 مليار درهم للصحة الوطنية وبرامج مكافحة الأمراض) بين الأعوام 2019 و2025. يتطلب هذا المخطط أيضا تخصيص مبلغ 37 مليار درهم من ميزانية الدولة لتنفيذها إضافة إلى ميزانية استثمارية إضافية يبلغ قدرها 24 مليار درهم يتم تمويلها عن طريق الميزانية العامة للدولة، بالإضافة إلى القروض والشراكات بين القطاعين العام والخاص والشراكات الوطنية والسلطات المحلية وبرامج التعاون الدولي ومصادر إيرادات الضرائب الجديدة. ترتكز أولويات هذا المخطط على ثلاث ركائز رئيسية: "تنظيم وتطوير الرعاية الصحية بهدف تحسين القدرة على الولوج إلى الخدمات الصحية وتعزيز برامج الصحة الوطنية ومكافحة الأمراض وتحسين الحكامة والاستفادة المثلى من توزيع الموارد واستخدامها”. بعد عام واحد على إطلاق هذا المخطط، أقر وزير الصحة السابق أنس الدكالي بأن "تحديات إصلاح النظام الصحي الوطني وتصحيح اختلالات نظام الراميد تحديات تتعلق أساسا بالموارد ولكنها وقبل كل شيء تتعلق بالحكامة الرشيدة”. تمثل هذه التحسينات وجهود الإصلاح خطوات راسخة في الاتجاه الصحيح، كما أن استجابة الحكومة لأزمة كوفيد 19 كشفت عن قدرة هائلة للدولة حيث تمكن الملك والحكومة من تعبئة قدر كبير من الموارد ومن التنظيم لمكافحة الجائحة العالمية. فقد تمكنت الدولة من بناء مستشفيات ميدانية مؤقتة وتوفير المئات من الأسرّة في غضون أيام وتعبئة ميزانية 32.7 مليار درهم لصندوق الطوارئ الصحية لمواجهة الأزمة والاستعانة بالبنية التحتية التصنيعية في البلاد للشروع في إنتاج المعدات الطبية الحيوية مثل أجهزة التنفس الصناعية والأقنعة الواقية. لقد أسهم ذلك، وإلى حدود الآن، في التحكم في معدلات الإصابات في مستوى أقل من العديد من جيران المغرب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فاعتبارا من 9 ماي، وصل إجمالي عدد الإصابات في المغرب إلى 5.873 و186 حالة وفاة (بمعدل 5 حالات وفاة لكل مليون حالة إصابة) في حين تعافى 2.389 من هؤلاء. ومع ذلك، فإن هذا النجاح قصير المدى لا ينبغي أن يحجب عددا هائلا من المشاكل الهيكلية التي لا تزال تحد من فعالية الرعاية الصحية في المغرب. لا تزال هناك تحديات كبيرة أمام القطاع الصحي والتي وجب معالجتها للتخفيف من المخاطر المتصلة برفع إجراءات الإغلاق والتي من المتوقع أن تتم نهاية شهر ماي/ أيار. المشكلات المزمنة لقطاع الرعاية الصحية بالرغم من الإصلاحات وبرامج التنمية الطموحة التي باشرها المغرب إلا أن ترتيبه في مؤشر التنمية البشرية لا يزال منخفضا للغاية. ففي عام 2018، احتل المغرب المرتبة 123 من بين 189 دولة في مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي وهو واحد من أدنى المعدلات المسجلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. يمثل قطاع الرعاية الصحية أحد القطاعات التي تؤثر سلبا على ترتيب المغرب في مؤشر التنمية البشرية. هذا ما يؤكده تقرير للبنك الدولي الصادر عام 2015 والذي أشار إلى أنه و بالرغم من الإصلاحات "فإن معدلات وفيات الأمهات والرضع في المغرب – خاصة في المناطق القروية – من بين الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فوفقا للإحصاءات الوطنية، فإن حوالي %10 من سكان العالم القروي في المغرب والبالغ عددهم 13.4 مليون نسمة و%3.5 من سكان المناطق الحضرية يعيشون تحت معدل خطر الفقر الوطني"[22]. فضلا عن ذلك، وكما هو موضح أعلاه، فإن عدد المغاربة الذين يتوفرون على تأمين صحي يقل عن نصف العدد الإجمالي للسكان، إضافة إلى أن نسبة الأمراض غير المعدية عرفت ارتفاعا مقلقا. فضلا عن التحديات الصحية الجديدة والافتقار إلى التأمين فإن جودة الرعاية الصحية في المغرب تظل منخفضة بوجه عام كما أن هناك نقصا كبيرا في عدد العاملين في القطاع الصحي. ففي عام 2017، سجل أقل من طبيب واحد لكل ألف شخص (مقارنة ب 1.3 طبيبًا في تونس و1.8 طبيبًا في الجزائر و4.1 طبيبًا في إسبانيا)[23]. هذا فضلا عن عدم وجود عدد كاف من الأسرّة في المستشفيات العمومية حيث وكان المغرب يتوفر في عام 2014 على 1.1 سريرًا لكل ألف شخص (مقارنة ب 2.3 في تونس و1.9 في الجزائر و3 في إسبانيا)[24]. وأخيرا، وبالرغم من ارتفاع معدل الإنفاق على القطاع الصحي بشكل مضطرد إلا أن الإنفاق على الصحة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي ما زال منخفضا انخفاضا نسبيا. فوفقا لبيانات البنك الدولي، يعتبر هذا المعدل أقل من معدلات الجزائروتونس وإسبانيا (أنظر الشكل 2). في الوقت الذي ازداد معدل الإنفاق على القطاع الصحي قليلا وكشف تعامل الحكومة مع أزمة فيروس كورونا عن قدرة أكبر من تلك المتوقعة على تعبئة موارد مالية كبيرة، فإن الإنفاق على الرعاية الصحية يجب أن يشكل جزءا أكبر من الإنفاق الحكومي. يتطلب الأمر استثمارات أكثر مما يقدمه مخطط الصحة 2025، وخاصة إذا كان النظام يأمل في معالجة التحديات طويلة الأمد لكل من كوفيد- 19 وتحديات الصحة العامة الأساسية التي تؤثر على المواطنين المغاربة. ومع ذلك، وكما أوضح وزير الصحة السابق بنفسه، فربما تكون العقبة الأكثر صعوبة أمام تحسين جودة الرعاية الصحية الشاملة وإمكانية الولوج إلى الخدمات الصحية هي تلك المتعلقة بالحكامة الرشيدة. شرع المغرب، مثل العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في إصلاح القطاع العمومي بدرجات متفاوتة من النجاح وذلك لتحسين كفاءة وجودة تقديم الخدمات العمومية بما في ذلك الرعاية الصحية. ساعدت بعض البرامج مثل برنامج "راميد" في تأمين تغطية صحية لما يقارب تسعة ملايين مغربي. غير أن عددا كبيرا للغاية من المواطنين مازالوا دون رعاية صحية، وحتى أولئك الذين يتوفرون على التأمين لا زالت تواجههم عقبات أخرى. لا زالت الفئات المهمشة تعاني من عدم إمكانية الولوج إلى الخدمات الصحية ويتجلى ذلك من خلال التفاوتات المختلفة القائمة، فهناك تفاوتات كبرى في الحصول على رعاية صحية جيدة بين المناطق الحضرية والقروية والمستشفيات العمومية والخاصة وبين مختلف المناطق في المغرب. فمعظم المستشفيات والعاملين في مجال الرعاية الصحية يتركزون في المناطق الحضرية وعلى طول الساحل، ولاسيما في الرباط والدار البيضاء. وبحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية عام 2010 على المغرب، يعيش 100% من السكان في المناطق الحضرية على مسافة أقل من 5 كلم من مرافق الرعاية الصحية، أما في المناطق القروية، فإن نسبة السكان الذين تبعد منازلهم عن مرافق الرعاية الصحية بأقل من 5 كلم هي أقل من 30%. ويعيش ما يقرب من 60% على بعد 5 كلم إلى 10 كلم من المرافق الصحية التي تبعد بمسافة تزيد 8 كلم عن 11% من سكان المنطقة. أظهرت الدراسة نفسها وجود تحديات كبرى مازالت قائمة حتى اليوم بما في ذلك: "صعوبة حصول المواطنين الأشد فقرا وسكان القرى على الرعاية الصحية، مع وجود تفاوت في إمكانية الولوج للرعاية الصحية وطلب الرعاية بالنسبة لأمراض بعينها، ولاسيما الأمراض المزمنة، بالإضافة إلى التدبير غير المرضي عليه للمستشفيات العمومية التي تعاني من عدد من أوجه القصور مما يجعلها غير قادرة على منافسة المستشفيات الخاصة”. الجزء الثالث: الخلاصة والبدائل السياسية إن التحديات التي تم التطرق إليها أعلاه كبيرة لكن تجاوزها ممكن. فقد أوضحت استجابة المغرب السريعة لأزمة كوفيد 19 والقدرة الهائلة للدولة على مواجهة أزمة الصحة العامة أن تحسين جودة قطاع الرعاية الصحية يعتمد أولًا وقبل كل شيء على وجود الإرادة السياسية أكثر من اعتماده على القيود المرتبطة بالميزانية والحكامة، على الأقل على المدى القصير. أما على المدى الطويل، فمن المهم فهم نقاط الضعف الأعمق لنظام الرعاية الصحية. فلا شك أن تعبئة الموارد الضرورية لإدارة الأزمة على المدى القصير والذي ساهم في إنقاذ أرواح الكثيرين في المغرب و جهود الإصلاح على مدى العقدين الماضيين قد حسنا الوضع العام لقطاع الصحة العامة بالمغرب. وعلى الرغم من ذلك، ما زالت هناك تحديات كبرى تواجه جودة الرعاية الصحية وتقديم الخدمات الصحية العمومية الأساسية. هدف الحكومة المتمثل في توفير تغطية صحية شاملة مازال بعيدا عن المنال، حيث أن عدد الذين يتوفرون على تأمين صحي في المغرب يمثلون أقل من نصف السكان. وبعبارة أخرى، فإن جهود الإصلاح مازالت غير كافية حتى الآن. يجب على الحكومة الاعتماد مستقبلا على ست أولويات لتحسين جودة الرعاية الصحية العمومية وطرق تقديم الخدمات الصحية. زيادة الإنفاق: بالرغم من أن الموارد المالية ليست هي كل شيء، لكنها نقطة انطلاق جيدة لبدء الإصلاحات، فعلى الحكومة زيادة الإنفاق العام والبحث عن المزيد من التمويلات الخارجية للاستثمار في مجال الرعاية الصحية وخدماتها. سلط مخطط الصحة 2025 الضوء على هذا الأمر من خلال اقتراح زيادة الإنفاق ولكن في ظل أزمة كوفيد 19 يجب الرفع من هذه الميزانية بقدر أكبر. ومن المهم الإشارة إلى أنه وبالرغم من زيادة الإنفاق الحكومي المغربي على الرعاية الصحية في السنوات الأخيرة، فإنه لا يزال منخفضًا مقارنة ببلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأخرى. فاعتبارًا من عام 2017، شكلت النفقات الصحية حوالي 5% من الإنفاق الحكومي في المغرب بينما كان المتوسط العالمي 10%. وفي هذا الصدد، ينبغي أن تفكر الحكومة المغربية في مضاعفة ميزانية الرعاية الصحية. وبالإضافة إلى ما تقدم، أكدت منظمة الصحة العالمية أن التمويل الخارجي لا يشكل سوى 1% تقريبًا من تمويل الرعاية الصحية بالمغرب (ربما تكون هذه النسبة أعلى الآن ولكنها لا تزال منخفضة). يعتبر المغرب أحد المتلقين الرئيسيين للمساعدات والتمويل الدوليين. ينبغي تخصيص المزيد من هذه المساعدات للرعاية الصحية. يرجع واضعو السياسات نقص الاستثمارات في قطاع الرعاية الصحية إلى نقص الموارد المالية. يمكن التغلب على هذا الأمر عن طريق خفض الإنفاق العام في مجالات أخرى مثل ميزانية الدفاع حيث ينفق المغرب مبالغ مرتفعة من المال العام على شراء معدات عسكرية أمريكية. ففي عام 2019، اشترى المغرب معدات عسكرية من الولاياتالمتحدةالأمريكية وحدها بقيمة 5 مليار دولار. ووفقًا لمشروع قانون المالية لعام 2020، فقد ارتفعت ميزانية الدفاع الوطني بما نسبته 30%. ويتعلق جزء كبير من زيادة الإنفاق هذه بالارتفاع المستمر لميزانية الدفاع للمنافس الإقليمي، الجزائر. لكن هذه المقاربة غير ضرورية وتتسم بقصر النظر، فالأمن العالمي يبتعد تدريجيا عن التهديدات التقليدية للحرب المتعارف عليها والجماعات الإرهابية في اتجاه التهديدات الوجودية كتغيير المناخ والصحة العامة، وهو ما أصبح أكثر وضوحا بالنظر إلى انتشار فيروس كوفيد 19. تحسين تقديم الخدمة: يمثل انعدام الثقة أساس التحديات التي يعرفها القطاع الصحي في المغرب. فالرأي العام غير راضٍ عن الخدمات التي تقدمها مؤسسات الرعاية الصحية ويعتقد أن أداء قطاع الصحة العمومية ضعيف. وبالتالي فأغلب المغاربة يلجأون في الغالب إلى القطاع الخاص (الذي لا يستطيع الكثيرون تحمل تكاليفه). في دراسة أعدها البنك الدولي حول المؤسسات الصحية العمومية في المغرب، توصل الباحثون إلى خمسة محاور رئيسية تعزز من جودة الرعاية الصحية: (1) القيادة، (2) روح الفريق والرسالة المشتركة، (3) المشاركة في "منافسة الجودة" (4) التنسيق الفعال مع المسؤولين المحليين والجهويين بوزارة الصحة، و(5) إقامة الشراكات والعلاقات المجتمعية[33]. وبعبارة أخرى، يمكن تحسين جودة الرعاية الصحية ليس فقط من خلال الاستخدام الأمثل للموارد مثل رأس المال البشري فقط بل عن طريق تحسين إدارة الموارد البشرية ولاسيما عن طريق تشجيع الشراكة والتعاون وليس الاعتماد على الموارد المالية فقط. توسيع نطاق نظام التأمين: تتعلق الأولوية الثالثة بتوسيع نطاق التغطية الصحية حيث يجب أن ينتقل برنامج راميد من استهداف الفئات محدودة الدخل ليصبح برنامج رعاية صحية شامل. يمكن أن تبقى أنظمة الرعاية الصحية العمومية/ الخاصة كما هي، لكن نظام تأمين صحي عمومي شامل يجب أن يكون هدف الاستثمار الحكومي، خاصة لسكان المناطق القروية. يمكن تخصيص المزيد من التمويل الخارجي لهذه الخدمة الأساسية. يجب على الحكومة توفير مستويات كبرى من التعاون الدولي في ظل أزمة كوفيد 19 لزيادة مشروعات الشراكة في قطاع الرعاية الصحية مع مجموعات مثل البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية. ستساعد مضاعفة الميزانية العمومية للرعاية الصحية إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي مواءمتها بشكل أفضل مع المعايير العالمية في تمويل هذا التوسع. أضف إلى ذلك أن المغرب يمكنه أن يحول الكثير من الإنفاق على موارد الدفاع إلى الإنفاق على الأمن الصحي العام. الاستثمار في التوظيف المستهدف في قطاع الصحة، وخاصة بالنسبة للشباب: تنفيذ برامج تعليمية وتدريبية موجهة للشباب لبدء العمل في قطاع الرعاية الصحية. يمكن أن يساعد هذا الأمر في معالجة القضايا المنهجية المتصلة ببطالة الشباب وفي حل مشكل نقص الأطباء وطواقم التمريض في نظام الرعاية الصحية بالمغرب. وفقًا لبيانات البنك الدولي، فاعتبارا من عام 2017، كان المغرب يتوفر على طبيب واحد (0.72) لكل ألف شخص، أما الجزائر فكان لديها طبيبين تقريبًا لكل ألف شخص (1.8 لكل ألف) وكان لدى إسبانيا أكثر من أربعة أطباء لكل ألف شخص (4.1 لكل ألف شخص). أما المتوسط العالمي فهو 1.5 طبيب لكل ألف شخص. وبالمثل، فإن المتوسط العالمي لطواقم التمريض والقابلات لكل ألف شخص كان 3.4 مقارنة ب 1.1 في المغرب[34]. بعبارة أخرى، يحتاج المغرب إلى مضاعفة عدد الأطباء مرتين ومضاعفة عدد طواقم التمريض والقابلات ثلاث مرات للحاق بالمتوسط العالمي. إضافة إلى ذلك، دعت نقابات العاملين في المجال الطبي في السنوات القليلة الماضية إلى زيادة الأجور والموارد في القطاع العام [35]. ولهذا، يجب ألا تُخصص الزيادات في الإنفاق على الرعاية الصحية لتحسين المعدات الطبية وتعيين المزيد من الأطباء وطواقم التمريض فقط، بل يجب أن يحصل العاملون في مجال الرعاية الصحية في القطاع العمومي في الوقت الحالي على رواتب أفضل لأن هذا من الجوانب الأساسية لتحسين جودة تقديم الخدمات. الاستثمار في تصنيع المعدات الطبية: يشكل التصنيع الصناعي عنصرا أساسيا في استراتيجية المغرب لتنويع اقتصاده بهدف زيادة الصادرات وخلق فرص العمل من خلال إثبات مكانة المغرب كمركز تصنيع رئيسي. اعتادت القطاعات الحكومية والخاصة الاستثمار في قطاعات رئيسية مثل صناعة السيارات والصناعات الفلاحية ومعدات الطيران وسلسلة التعدين. ويهدف المغرب إلى أن يصبح مركزا صناعيا يربط بين الأسواق الأوروبية والإفريقية والشرق-أوسطية وربما حتى الصينية. وقّع البلد مذكرة تفاهم ليصبح شريكا رسميا في مبادرة الحزام والطريق الصينية في عام 2017 وفتح العديد من المناطق الاقتصادية الخاصة لتشجيع الاستثمار الأجنبي وتطوير البنية التحتية ومواصلة تطوير الصناعات الرئيسية مثل السياحة والفلاحة والتعدين والتصنيع. يمثل الاستثمار في تصنيع معدات الرعاية الصحية مجالا محتملا آخر للتنويع ويشهد نجاح المغرب مؤخرا في تصنيع كميات كبرى من الأقنعة الواقية وأجهزة التنفس الصناعي على ذلك. ففي شهر أبريل، كان المغرب ينتج 5 ملايين قناعا يوميا، حسب ما أوضحه وزير الصناعة مولاي حفيظ العلمي. وكانت الطاقة التصنيعية عالية لدرجة أن المغرب يخطط لبدء تصدير الأقنعة إلى أوروبا. كان تصنيع الأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي هدفا للتعامل مع جائحة كوفيد 19، ولكن يجب على واضعي السياسات البحث بجدية أكبر في مسألة التصنيع في قطاع الرعاية الصحية، ليس فقط لأغراض التصدير إلى أوروبا ولكن للتصدير إلى الدول المجاورة في المغرب العربي وغرب ووسط إفريقيا والذين يفتقرون إلى المعدات الطبية أيضا. ستكون هذه هي الخطوة الأولى من الاستراتيجية الاقتصادية للمغرب للربط بين الدول الغربية (أوروبا والولاياتالمتحدة) وإفريقيا. تعزيز الشراكات مع الشركاء المحليين والعالميين: أظهرت أزمة كوفيد 19 أيضا مستوى الترابط بين قطاعات الصحة العمومية. فمن بين المشكلات الرئيسية في الاستجابة العالمية الحالية للأزمة، نقص القيادة العالمية والتعاون الإقليمي. يشعر المرء بأن الدول مضطرة للتعامل مع الجائحة بمفردها. لهذا، فقد شرعت العديد من الدول، بما فيها المغرب، في تنفيذ برنامج تصنيع سريع لإنتاج اللوازم الطبية الضرورية مثل أجهزة التنفس الصناعي والأقنعة الواقية وتصديرها، بينما ترسل دول أخرى أطباء وطواقم تمريض إلى دول أخرى حول العالم. يسجل هنا عدم حضور الولاياتالمتحدة في هذا المشهد التعاوني الدولي بل إنها أعلنت أنها قد تسحب تمويلها من منظمة الصحة العالمية. وفي خضم هذا النظام العالمي الممزق، يجب أن تعزز الدول الشراكات على كل مستوى يسمح بذلك. وعلى الصعيد المحلي، يشمل ذلك التعاون بين القطاعين العام والخاص والشراكات المحلية والإقليمية والوطنية. يجب أن يشمل ذلك أيضًا التعاون الإقليمي مع الجيران القريبين. وفي حالة المغرب، يشمل ذلك أوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط والمغرب الكبير. أما على الصعيد الدولي، يشمل ذلك زيادة التعاون مع المجموعات مثل منظمة الصحة العالمية. هذا الأمر صعب للغاية، لكن الدول مثل المغرب بحاجة إلى محاربة الاتجاه الذي تقوده الولاياتالمتحدة لفك الترابط الدولي وإغفال التعاون العالمي.