ينطوي السّجال الرّاهن حول موقفي وزير العدل محمد بنعبدالقادر والكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي إدريس لشكر من مشروع قانون 20-22، الذي يسمّيه جل المغاربة «قانون تكميم الأفواه»، واحتفالية الذكرى الستّين للحزب التي طغى عليها سؤالُ الغياب أكثر من جواب الحضور، ومقاطعة عدد من أبرز القادة التاريخيين للاتحاد قبل سبعة أشهر في الرباط، عن مخاض داخل أهمّ حزب يساري في تاريخ المغرب. وفي ظلّ تصاعد الاحتجاج على تخلّي قيادة الحزب حاليا عن جلّ ثوابت العمل السياسي التي نادى بها بنبركة وبوعبيد والجابري وبنجلون واليوسفي واليازغي وغيرهم. هل لايزال الاتحاد الاشتراكي يرتبط حقيقة برؤية عضوية مستقاة من فكر اليسار وقناعات الكتلة التاريخية؟ الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصراعات في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وعضو لجنة الخبراء في الأممالمتحدة سابقا، يقدّم قراءة نقدية لمسار الاتحاد بين 1958 و2020، ويتناول نقاطا محورية منها قياس القرينة الموضوعية بين تطوّرات المغرب وطبيعة الحكم، وجدلية اليسار والمخزن، وعلاقة بنبركة بالملك الحسن الثاني، وكيف تدرّجت مواقف الحزب من قضيتين محوريتين: الديمقراطية والملكية. وكيف تغيّرت البوصلة من «شرعية الزعامة» إلى «تقنية القيادة»؟ وما هو دور التأثيرات السّيكولوجية والسياسية داخل حزب انقسم إلى «اتحاديي المعارضة» مقابل «اتحاديي الموالاة»، وتطوّر هويتهم السوسيولوجية في القرن الحادي والعشرين؟ تأتيكم هذه الدراسة النقدية ضمن ثماني حلقات متتالية. @ د. محمد الشرقاوي* يعدّ النقد البناء أو التقريض critique متأصّلا في التاريخ الفكري والسياسي في المغرب، وكان علماء القرويين في فاس مثلا يقومون بتوجيه النقد الصّريح لسلاطين المغرب، وينبّهونهم إلى زلاّت لسانهم أو عيب قراراتهم في تدبير شؤون الدين والدنيا، كدور سياسي لمجتمع مدني أصيل. وقد استمدّوا شرعية وصايتهم الأخلاقية والفلسفية من مفهوم “البيعة المشروطة” التي تعود إلى سجالات العلماء أيّام السلطان زيدان خلال الحقبة السعدية، وهي بمثابة عقد اجتماعي “ملزم للطّرفين برضاهما ويتضمّن أحكاما محدّدة تقضي بالنّسبة لهما الأخذ والعطاء المتبادل”، كما تفيد بعض المصادر. والمثير أن هذه البيعة المشروطة تتجاوز مفهوم البيعة التقليدية التي استعرضها ابن خلدون، ولا تجد ما يقترب منها في نظريات العقد الاجتماعي لدى هوبز ولوك وروسو. بين صدور الظهير البربري في 16 ماي عام 1930، والذي استخف المغاربة بما سموّه “الظهير اليسيري”، وتوقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال عام 1944، تجمّعت قوى الوطنيين المغاربة حول حزب الاستقلال، بمن فيهم بنبركة، وبوعبيد، وعبد لله إبراهيم، وأحمد الشرقاوي، وقاسم الزهيري، والصديق بن العربي وآخرون، قبل أن يولد “الاتحاد الوطني”. وشكّلوا قوة الدفع في حماية العرش، بل واشترطوا عودة الملك من المنفى جزءا لا يتجزأ من استقلال المغرب. ويذكّرنا الجابري أن “المغرب هو البلد الوحيد، تقريبا، من بين بلدان العالم الثالث الذي لم تتسلم فيه الحركة الوطنية التي حققت الاستقلال الحكم، أعني السلطة، بل لقد تسلّمها ملك البلاد بتفويض من الحركة الوطنية تلك، بجناحيها السياسي والعسكري: حزب الاستقلال وحركة المقاومة وجيش التحرير.” ومن غبن التاريخ أن يكون البعض من رجالات “القوة الثالثة” قد آثروا الكسب السريع بالتعاون مع سلطات الاستعمار، كما يفعل أثرياء الحروب، ثم انقلبوا إلى “حفظة العهد” وقاموا ب”إيهام ولي العهد آنذاك، والملك الحسن الثاني فيما بعد، أنه لن يكون له الملك مستقبلا إذا بقيت الحركة الوطنية قوية، كما هي مؤثرة في الملك محمد الخامس المتحالف معها”، كما يوضّح الجابري. خلال العقود الأربعة الأولى من قيام الاتحاد الوطني ثم الاشتراكي، سخّرت الدولة المغربية قدراتها لكي تكون راعية لرقعة الشطرنج بين الأحزاب ورقيبة على حركيّات المجتمع. يقول “آلان تورين” إنّ الدولة “فاعل اجتماعي معقّد يمتدّ في الوقت عينه إلى الحقل التاريخي، وإلى المؤسّسات، والمنظّمات الاجتماعية”. كانت الدولة المركزية بالنسبة إلى الاتحاديين القدامى بمثابة “الأخ الأكبر” بصيغة جورج أورويل، قبل أن تجعل من الاتحاديين الجدد، أو اتحاديّي الموالاة، صيغة مغربية من “إخوان الصفا” بتراتبية طبقاتهم بين أهل “صفاء جوهر”، وأهل “شفقة ورحمة”، وأهل “دفع العناد والخلاف بالرّفق واللطف”، وأهل “التّسليم وقبول التأييد”. والمثير أن تراتبية “إخوان الصفا الاتحاديين” تتماهى إلى حدّ كبير مع تصنيفات عبدلله ساعف عند حديثه عن “يسار ما بعد التناوب” أو اتحاديّي الموالاة منذ 2004. فهو يلاحظ أن نخبة الاتحاديين التي شاركت في الحكومة “فشلت”، وهو فشل يعيدنا إلى الإشكالية التي “كانت حاضرة منذ البداية، وفيها ثلاثة مواقف طبعت اليسار: 1) أنصار المشاركة، 2) أنصار المقاطعة، و3) جزء كبير آخر يمكننا أن نصفه بالانتظاريين”. يوم “توافق” أحمد التوفيق مع المارشال ليوطي مع تدّني الفكر الاتّحادي وجرأة النقد، عاد عموم المغاربة إلى الإيمان في القوة الغيبية، وطلب “البَرَكَة” عند زيارة الأضرحة، وتزايد ترحيب الزوايا بالهبات الملكية قبل انطلاق مواسم الذكر والخشوع، وأيضا حلقات “الجذبة” و”التعركيبة”، وغيرها من طقوس ما فوق الطبيعة. ويجد هذا المدّ غير العقلاني، أو ما يسميه العروي “تغييب الثقافة المكتوبة”، قوّة الدفع بفضل سياسة “الأمن الروحي” التي هندسها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق الذي يعتدّ حاليا بالارتفاع في تلك المزارات إلى 5038 ضريحا و1496 زاوية. ويقول السيد التوفيق الذي يقضي حاجته من “الأمن الروحي” من الجذبة وفق طقوس الزاوية البودشيشية، إنّ أعداد الأضرحة والزوايا “دليل على تأطير روحي جيد للمغاربة وتمسّكهم بالقيم الإسلامية والأولياء الصالحين”. غير أنّ الباحثة الأمريكية “آن ماري وينسكوت” تلاحظ في كتابها الجديد: “التطويع البيروقراطي للإسلام: المغرب والحرب على الإرهاب” Bureaucratizing Islam: Morocco and the War on Terror كيف ازداد التحوّل في علاقات القوة ضمن الدولة المركزية، وكيف أن التطويع البيروقراطي للدين يمثل تبيئة النخب الدينية للسلطة السياسية بأسلوب أكثر رسمية وأكثر مأسسة من أي وقت سابق”. تكبر الرمزية وتصبح المفارقة “نووية” عندما يجلس السيد التوفيق إلى مقابلة مع صحيفة “الاتحاد الاشتراكي” يوم 3 مارس 2016، ويلوّح بأنّ وزارته نجحت في الحصول على المزيد من ميزانية الدولة لتمويل برنامج “القيّمين الدينيين” بزيادة وصلت إلى 1.363 مليار درهم عام 2015 من أصل 60 مليون درهم عام 2004. وعندما تتراجع عقلانية وبرغماتية العلاقات الدولية للمغرب، يصبح “الأمن الروحي” عملة التعامل مع القارة الإفريقية، فيزيد الفتح فتحا بتأسيس معهد تكوين الأئمة في مارس 2015. ويعتقد السيد التوفيق أنّ خدمة الإمام “لا تتوقف عند الأداء الذهني أو الحركي، بل تستوجب انخراطا على مستوى الضمير”، ويُذكّر المغاربة بعدم فهمهم لحقيقة المرحلة، وأنهم يعيشون “زمنا جديدا يكشف فيه التاريخ عن كثير من الفهوم الناقصة للدين، ولا بأس من التصحيح على ضوء التاريخ الذي يبين المصلحة في قراءة أكثر ملاءمة للنص”. ومن صدف التاريخ وجود نقاط التقاء بين سياسة “الأمن الروحي” حاليا، و”السياسة الإسلامية” التي كرّسها رجل الحماية الفرنسية المارشال “إيبير ليوطي” قبل مائة عام في تحويل المغرب إلى “نموذج” للدول الإفريقية. ويتماهى المشهد بين هذا البعد “الاستراتيجي” بين بداية القرن الحادي والعشرين مع ما كان عليه بداية القرن العشرين بعد فرض الحماية عام 1912، فيبدو السيد التوفيق مرتاحا في عباءة المارشال ليوطي! يطيب لمُراسِلة “الاتحاد الاشتراكي” أن تبحث عن “غيرة” السلطة، أو ما تسمّيه “غياب زجر حقيقي للقائمين على إنتاج الفتاوى “العشوائية” وتوفير سبل نشرها ودعم ترويجها”، بل وتبدي لباقة الاحترام بسؤال مثير: “ما هي خطواتكم السيد الوزير تجاه هذا المنحى الخطير الذي “كفر” ونشر “لغة الفتنة” و”خرق الدستور” أمام صمت المعنيين بحماية بلادنا من الظواهر الدخيلة من الشرق خاصة؟” فيجد أحمد التوفيق فرصة مواتية لكي “يقطّر الشّمع” على رؤى الفكر التنويري الذي تبنّاه الاتحاديون وسائر أجيال الحداثة المغربية منذ الاستقلال. فيصبح الخطاب الديني بمثابة العلاج “السحري الوحيد” لعلاج مغرب القرن الحادي والعشرين من كل مشاكله الأمنية وتحدياته في الداخل والخارج. فهو يقول “لا سبيل إلى الحماية مما تسمّونه “أفكارا دخيلة” إلا بإعطاء المناعة لجسم المجتمع ماديا ومعنويا، فالمناعة المادية تتأتى بمشاريع القضاء على أنواع الهشاشة، والمناعة المعنوية تكون بالتفسير السليم للخطاب الديني”. يمتطي أحمد التّوفيق صهوة الحصان في لحظة “تبوريدة” إيديولوجية في ساحة “الاتحاد الاشتراكي”، ويحاضر أعضاءه وأنصاره بأن هناك “ظهور نزعة علمانية متأثرة بالتاريخ الغربي ترى أنّ الدين شأن فردي شخصي لا علاقة له بالشأن العام وبالدولة. وهذا النزوع أسهم في الخوف لدى الغالبية التي ترى أن الدين في قيمه أمر شامل، علما بأن الحقيقة في الديمقراطية، وبقطع النظر عن الإيمان وعدمه، نابعة من إرادة الجماعة، أي الأغلبية”. طبعا، هي إرادة “الجماعة” و”أغلبية” المتحمّسين لتذويب العقل في العقيدة، وتحلّل المنطق في الأسطورة، كتحلّل عظام رجلٍ في أسطورة “خرج ولم يعد”. هكذا ينتحر علال الفاسي، ويموت المهدي بنبركة ثانية، وثالثة، ورابعة. هو مسار التحلل من العقلانية وغلبة الفكر التقليداني. ومن مكر التاريخ أن يصبح أقطاب “الفكر الطُّرُقِي” (نسبة إلى عبارة المكّي الناصري) ودعاة “الأمن الروحي” هم ذوو الصوت الطاغي في ضجيج المرحلة على صفحات “الاتحاد الاشتراكي” التي كان يصول ويجول فيها عميد العقلانية التنويرية الرشدية محمد عابد الجابري في وصلها ثم فصلها مع التراث. ولا غرو أن تزيد المساومات بين أغلب اتحاديي الموالاة ودعاة الطُّرُقية البودشيشية على نحر تركته، ومن خلفه أصوات الحداثة الإصلاحية، كما فعل إخوة يوسف عند حافّة البئر. فمن سيحمل القميص، ومن سيقرأ دعاء الميت عند مراسم دفن غير معلنة لصاحب “عقل لمْ ولنْ يقبل أن يستقيل”. من “المادية التاريخية” إلى “المادية المالية” استندت المرجعية الاشتراكية لدى الاتّحاد إلى ما يمكن اعتباره ماركسية مرنة حاول منظّرو الحزب تقليمها أو تبيئتها، كما يقول الجابري، وإنْ كان الاتحاد لا يزعم “الإتيان بإيديولوجية جديدة، أو باشتراكية خاصّة قد يطلق عليها نعت من النعوت”، وأنّ “الاشتراكية واحدة، كمنهجية وكهدف،” كما أكّد عمر بنجلون. وسعت اشتراكية هذا الحزب لإيجاد حيز تعايش أو شبه توافق بين “الاشتراكية العلمية ضمن منهجية التحليل التاريخي والجدلي،” وإمكانية “التكامل المثمر بينها وبين المبادئ والتقاليد التقدمية لحضارتنا العربية الإسلامية،”، حسب تصوّر قياديي الاتحاد. لكن ثمة قصة أخرى بين شِعَارِية الحزب وفلسفته اليسارية وممارسته الواقعية باعتباره حزب أغلبية في أكثر من حكومة. في أواخر التسعينات، بدأ التوافق بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية بعدما نبّه الملك الحسن الثاني إلى “خطورة المرحلة” وذكر في خطابه عام 1995 “الاقتراب من السكتة القلبية”، وهو يستعرض نتائج البنك الدولي عن أوضاع الإدارة والقضاء واستشراء الفساد. فتردد صدى قولته الشهيرة: “قرأتُ تقرير البنك الدولي، فوجدتُ فيه أرقاما مفجعة تجعل كلّ ذي ضمير لا ينام”. في الوقت عينه، بدأ تهذيب الخطاب الاتحادي بفعل انشغال أعضائه بشؤون الحكومة والتحالفات ومختلف الرقصات السياسية داخل البرلمان. وبدأ الحزب ينفتح على أعضاء جدد ليس في ذمّتهم بالضرورة ملامح نضال سابق أو قناعات مترسخة، بقدر ما كانوا شخصيات طموحة أو من اعتبروا أنفسهم “أعيانا”، ومن ذوي الإمكانيات المالية في مجتمعاتهم المحلية، على غرار ما يفعله حاليا التجمع الوطني للأحرار لتعزيز صفوفه باتجاه معركة الانتخابات المقررة عام 2021. لم تظهر على ملامح هؤلاء آثار المعاناة من حرّ المظاهرات أو عناء الإضرابات أو خدوش من عنف السلطة أو قضبان الزنزانات. فأصبح الاتحاد الاشتراكي يميل نحو شراكة جديدة بين المال والمقام الاجتماعي وحسابات الحملات الانتخابية وأحيانا “دواعي الكفاءات”. وبين 2002 و2007، تراجعت عضوية الاتحاد من 50 إلى 38 مقعدا في مجلس النواب، وتقلّص معها عدد “الأساتذة” إلى 11 لصالح “رجال الأعمال” الذين بلغ عددهم 14. هكذا بدأت تتغيّر الملامح السوسيولوجية للحزب، وفقد اليسار توهجه الفكري والسياسي الذي كان له في أعين المغاربة قبل الدخول في مجازفة التناوب التوافقي. في الوقت عينه، بدأ الاتّحاد الاشتراكي ينحو نحو التنوّع السوسيولوجي في صفوفه إلى حدّ “أعْيَنَة” (من الأعيان)، أو “نَبْلَنَة” notabilisation، لعدد نواب الأمة ضمن نطاق “تعزيز السلطة الملكية في المغرب” كما تلاحظ منية بناني الشرايبي. وهو تحوّل يجسّد مدى الترابط بين بُعدين: “التحوّل على المستوى الانتخابي لحزب من المناضلين إلى واحد يضمّ الأعيان أو النبلاء، واندماج جبهة حول الملكية مرتبطة بتحوّل اليسار وبخوف مشترك من “الطبقات الخطرة” الجديدة، التي يرمز إليها شبح الإسلاموية”. كما هي الطبيعة تكره الفراغ، كذلك هي السياسة. تتغيّر الكراسي الموسيقية داخل البرلمان وتتراجع أرصدة الحزب السياسية والأخلاقية في تقديرات الرأي العام. وبدا أن قيادتهم للحكومات بين 1998 و2007 كانت بمثابة نعمة على المدى القصير تحوّلت إلى نقمة على المدى البعيد. فكانت لحظةً استراتيجيةً سانحةً لاستبدال الأدوار، فوجد حزب العدالة والتنمية مدخله التكتيكي المناسب ليصبح حزب المعارضة الجديد بعد أن تلوثت سمعة الاتحاديين. من يملك الخطاب؟ بين اتّحاد الأمس واتّحاد اليوم بون شاسع. ويمكن اختزال أهمّ التحولات في مسار هذا الحزب في تدرّج مواقفه وأدبياته إزاء ثلاث قضايا رئيسة: 1) مآل الديمقراطية في المغرب، و2) التفاعل مع الملكية ضمن سجال مفتوح حول مدى الحاجة لملكية “برلمانية” وسط تأرجح كفتي الميزان بين القصر والمعارضة اليسارية، و3) كيف يقيس الاتحاد الاشتراكي أداءه في السياسة ويقدّر مدى مكانته في المجتمع في ضوء السؤال الذي أثاره كل من بنبركة واليوسفي: هل ستغدو “برلمانية” على الطريقة المغربية أم الأوروبية؟ وجادل بوعبيد حول مدى اقتراب الملكية أو ابتعادها من السلطوية والدستورانية. ونادى آخرون بضرورة تحديد المسافة بين أن تكون مطلقة أو برلمانية، وما تعنيه في السياق المغربي. كتب الحسن الثاني في “ذاكرة ملك” يقول إن بنبركة “لم يكن ينكر أن الملكية ضرورية للحفاظ على نوع من الوحدة، وفي الواقع كان يتمنى أن يمتلك جزءا من سلطتها وصلاحياتها مع الإبقاء عليها”. قد تتباين المواقف حول طبيعة الملكية وشكلها وآليات عملها مع مختلف المؤسسات. لكن لم تصل إلى حد القطيعة أو الإقصاء. ومنذ التحركات الأولى للحركة الوطنية، “نما التّعاون بين القصر وزعماء الوطنية الجديدة”، كما يقول عبدالله حمودي في “الشيخ والمريد”، و”بفضل هذا التعاون أعيد توطيد فكرة الملك بصفته رمزا لوحدة الأمة”. ويتذكّر الجابري العبارة القوية التي شدد عليها بنبركة أثناء خطابه في تجمع جماهيري في الدارالبيضاء عام 1955 قائلا: “إن كبرياء الرأي العام المغربي لا يقبل الاستقلال دون رجوع محمد الخامس الذي كان نفيه مسّا بكرامة المغاربة”. في الوقت الراهن، يبدِي القصر الملكي انفتاحا حذرا على فكرة “الملكية البرلمانية” من حيث المبدأ دون الحسم فيها معياريا بتغيير الدستور أو واقعيا خلال ممارسة الحكم والتعامل مع الحكومة والبرلمان وبقية المؤسسات المركزية. وأوضح أحد مستشاري الملك عبداللطيف المانوني في يوليوز 2019 أنّ المغرب يسير على طريق “ملكية برلمانية”، بيد أن “ثمة ربما بعض المقتضيات التي يلزم تجويدها”. في الوقت عينه، قلّل زميله المستشار الملكي عمر عزيمان من أهمية المقارنة بين الملكية في المغرب والملكية في الدول الأوروبية المجاورة مثل إسبانيا. فقال: “لسنا في إطار نظام يشبه الملكية الإسبانية أو الهولندية، حيث يسود الملك من دون أن يحكم، نحن في ظلّ نظام ملكية من نوع آخر، لكنّ سلطات الملك محدّدة”. وينصّ الفصل الأول من الدستور المغربي الذي جرى الاستفتاء عليه عام 2011 على أنّ “نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية”. وينص الدستور، أيضا، على أنّ النظام الدستوري للمملكة يقوم على “أساس فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية والمواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.” في المقابل، يبدي إدريس لشكر مرونة التوافق والتوفيق بين حزبه والملكية. ويعتدّ بأنّ “الدولة هي المواطنون والمؤسّسات، وعلى رأسها المؤسّسة الملكية، وأنّ كلّ الإصلاحات لا يمكن أن تتمّ إلاّ عندما تنخرط المؤسّسة الملكية في هذا الإصلاح، الذي كان يسلك طرقا متعدّدة، بحسب الظّروف وانسجام المواقف، إذ كانت هذه الإصلاحات تأتي أحيانا في إطار من التضارب، حيث عشنا في عهد الحسن الثاني مواجهات صعبة، إذ كان كل طرف له منظوره بخصوص الإصلاح سواء المؤسسة أو نحن، إلا أن تلك المواجهات هي التي ولدت هذه التوافقات اليوم”. في الحلقة الثامنة، أتناول تطور الاتحاد عبر ثلاثية الديمقراطية والملكية والاستوزارية، وكيف يصبح الاحتضار السياسي أشدّ من الموت، وسبل تحيين أو ترهين ثقافة الحزب وخطابه بما يتجاوز الظاهرة اللشكرية.6 *أستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وعضو لجنة الخبراء في الأممالمتحدة سابقا