يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). وقد ظل هذا الموقف هو نفسه الموقف الذي تصرف به المسلمون تجاه الفلسفة اليونانية، سواء في المناطق التي فتحوها، حيث كانت مراكز تعليم الفلسفة اليونانية لاتزال موجودة، أو بعد حركة الترجمة الواسعة في عصر المأمون، فبالرغم من أن هناك من العلماء والمتكلمين من انبهر بهذه المعارف، فإنهم ظلوا يحافظون على مسافة منهجية إزاءها، ذلك لأن الخطاب القرآني الجديد كان يشكل تحديا فكريا لجميع الفلسفات القديمة، وفرض نفسه ليس كسلطة روحية فحسب، بل أيضا كسلطة معرفية. ويلاحظ أحد الباحثين أنه في الوقت الذي فرضت فيه الروح الهيلينية، وهي توليف بين الأفكار اليونانية والفكر الشرقي، نفسها على المسيحية والمانوية والأديان الشرقية الأخرى، بقي الإسلام مستقلا عنها، بسبب أن القرآن «كان يؤثر تأثيرا مضادا للروح الهيلينية في عصر تغلغلت فيه الهيلينية». لكن هذا لا يعني أن تغلغل «علوم الأوائل» في جسم الثقافة العربية الإسلامية خلال العصر العباسي، وقبيله بقليل، لم تكن له تداعيات سلبية على المجتمع الإسلامي من الناحيتين السياسية والدينية، بل لقد أدى ذلك إلى حالة من الانقسام الفكري والثقافي، ربما ما زلنا نجرها معنا إلى هذا الوقت تحت عناوين مختلفة، كالحداثة والتقليد، أو الأصالة والمعاصرة. وليس أدل على ذلك من أن المرحلة التي شهدت حركة واسعة لترجمة معارف اليونان، أي فترة حكم المأمون، هي نفسها المرحلة التي شهدت أكبر قضية خلافية في تاريخ الثقافة الإسلامية ذهب ضحيتها عدد من الفقهاء والعلماء، وبقيت لها ذيول في التاريخ الإسلامي إلى وقت قريب، نعني بذلك المحنة الشهيرة بخلق القرآن، والمواجهة بين أهل السنة والمعتزلة. ويعود السبب في ذلك إلى أن تلك المعارف التي ترجمت عن اليونان دفعت طائفة من العلماء والمفكرين، أمثال المعتزلة، إلى الانبهار بها والتحزب لها ضد الجماعات الأخرى، بعدما رأوا أن تلك المعارف الجديدة تقدم لهم أساليب غير مسبوقة تساعدهم في الدفاع عن أفكارهم وآرائهم، وهذا ما يشدد عليه الصفدي أيضا حين يقول: «فهذا الأمر -يعني ترجمة علوم اليونان- كان غير مأمون قبل المأمون، نعم زاد الشر شرا والضر ضرا، وقويت به حجج المعتزلة وغيرهم، وأخذ أصحاب الأهواء مخالفو السنة مقدمات عقلية من الفلاسفة وأدخلوها في مباحثهم». غير أننا نجد العديد من الدراسات، خصوصا الدراسات الأجنبية، تميل إلى القول إن المسلمين قد تأثروا بشكل كبير بالفلسفة اليونانية، بل بعضها يذهب إلى حد الزعم بأن ما عرفه المسلمون من فلسفة ومعرفة علمية لم يكن سوى ترجمة لعلوم اليونان، على ما في ذلك من محاولة لمحو أي أصالة في التفكير العربي الإسلامي. وكان أول من أطلق هذه الفكرة المستشرق الفرنسي إرنست رينان في نهاية القرن التاسع عشر، في محاضرة ألقاها في جامعة السوربون بباريس عام 1883، قال فيها إن الفلسفة المسماة إسلامية ليست سوى الفلسفة اليونانية مكتوبة بأحرف عربية، وشكلت تلك المقولة محور المناظرة الشهيرة بينه وبين جمال الدين الأفغاني. ورغم أن هذه الأطروحة رُفضت، وقد فندها الأفغاني في حينها، إلا أنها عاشت في ثياب مختلفة، إذ استمرت في نطاق الحديث عن التأثير البالغ الذي مارسته الفلسفة اليونانية على التفكير العقلي والفلسفي للمسلمين. كرست هذه الأطروحة، والأطاريح المنبثقة عنها في الدراسات الفلسفية الأوروبية وبعض الدراسات الفلسفية العربية، مقولة أصبحت بمثابة المسلمة التي لا يرقى إليها الشك، وهي أن الفلسفة اليونانية هي الممثل الوحيد للتفكير العقلاني، والنموذج الفريد للعقلانية. ولا يخفى ما في هذه الأطروحة المتسرعة والإيديولوجية من محاولة لنزع العقلانية من الثقافة الإسلامية القديمة، ومن الإسلام نفسه، واعتبار هذا الأخير غير قادر على إنتاج العقلانية، أو على الأقل توليد عقلانيته الخاصة. ومن هنا يمكننا ملاحظة أن جميع الدراسات الأوروبية، ونظيراتها العربية، التي تتعرض بالبحث والدراسة للفلسفة الإسلامية، تتوقف عند الفلاسفة المسلمين الذين سعوا إلى المزاوجة بين الإسلام وبين الفلسفة اليونانية، وتعرض عن آخرين، وذلك بناء على معيار ثابت، أساسه أنه كلما كان هناك اقتراب من الفلسفة اليونانية كانت جرعة العقلانية زائدة، وكلما حصل ابتعاد عنها قلَّت تلك الجرعة، بل اختفت نهائيا. بل وصل الأمر إلى مستوى تشويه بعض الفلاسفة والعلماء المسلمين بقصد جعلهم أقرب إلى الروح اليونانية منهم إلى الروح الإسلامية، مثلما حصل مع ابن رشد الذي جعلوه يدافع عن رأي لم يقل به، وهو أن حقيقة الشرع وحقيقة العقل لا تتفقان. لقد نشأت الفلسفة اليونانية في إطار من الثقافة الميتافيزيقية التي تبحث في عالم الغيب والماوراء، أي ما يقع خلف العالم المحسوس المشاهد، وما الميثولوجيا اليونانية وتعددية الآلهة إلا انعكاس لتلك الثقافة، أو هي نتاج لها، إذ لا يمكن الفصل بين الثقافة والميثولوجيا في الفكر اليوناني. فقد كان اليونانيون يتعاملون مع آلهتهم بكثير من التقدير، لأنهم كانوا بناة المدينة وحماتها في الوقت نفسه، فكان تكريمهم واجبا وطنيا، لذلك، كان لا بد من العرفان بالجميل تجاههم، والخوف من عقابهم.