تقدم مذكرات محمد بنسعيد الإجابات الممكنة حول عدد من الإشكاليات الكبرى، المتعلقة بالأحداث التاريخية المفصلية التي تهم كتابة تاريخ المغرب من 1955 إلى 2011. ومنها ما يتعلق بحدث “إيكس-ليبان”، وحكومة البكاي الأولى، وجيش التحرير، ودستور 1962، والاغتيالات السياسية المتكررة التي منها قتل عباس المسعدي والمهدي بن بركة وآخرين، وأحداث يوليوز 1971 وغشت 1972. واعتبر محمد بنسعيد هذه الأحداث التي استعادتها ذاكرته من فرص المغرب الضائعة. في سنة 1925، وبقرية تينمصور في اشتوكة آيت باها جنوب المغرب، رزق أحد تجار الماشية بالقرية بولد سماه أبوه محمد. وواصلت الحياة وتيرتها، يخرج الأب يبتاع الخيول من الجنوب إلى مراكش في نشاط تجاري جعل العائلة تنسج علاقات اجتماعية واقتصادية واسعة بالمنطقة. كان هذا زمن الحماية الفرنسية-الإسبانية في المغرب. وفي سن الرابعة التحق مثل أقرانه بمسيد القرية لحفظ القران، وبعد ثلاث عشرة سنة التحق بالمدرسة الشيشاوية للتعليم العتيق لدراسة الفقه والنحو، ثم بمدرسة سيدي أبي عبد الله في نواحي سيدي إفني لاستكمال التكوين الأولي. ويظهر من هذا المسار أنه ورث تقاليد المدرسة المغربية في تكوين النخب منذ القرون الوسطى، والتي عرف بها العديد من الباحثين المغاربة والأجانب. وفي سن الواحد وعشرين توجه محمد بنسعيد أيت إيدر نحو مراكش، المدينة التي شهدت تكوين النخب السياسية بحكم مكانتها التاريخية والرمزية والسياسية خلال فترة الحماية. وبفضل علاقات القرابة التي نسجها والده مع مريدي الزاوية الدرقاوية، انتقل إلى مقر الزاوية المذكورة بحي الرميلة بمساعدة المختار السوسي. واستمر في تعلم اللغة العربية والفقه والحديث وبعض العلوم العصرية كالتاريخ والجغرافية بالزاوية المذكورة. وفي المدينة تعرف على السينما وشاهد الأفلام وبدأ يقتني المجلات وخاصة مجلة العلم لسان حال حزب الاستقلال. ودفعته هذه الثقافة إلى تبني أطروحة الحزب بمساعدة القيادي الاستقلالي بالمدينة عبد القادر حسن. وهكذا التحق في سنة 1948 بالشبيبة الاستقلالية، “القطاع الطلابي”، ثم بدأ يستمع لخطابات الزعماء الوطنيين من أمثال عبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة حول العديد من القضايا السياسية والتاريخية. وفي الخمسينات نضج فكره السياسي، وبدأ يفهم العلاقة المتوترة بين القصر والحماية وعلاقة حزب الاستقلال بالسلطان محمد بن يوسف وعلاقة الكلاوي بالسلطة السياسية وعبد الحي الكتاني بالسلطة الدينية. وفي هذا الجو، الذي لم يكن طبيعيا بالمغرب، بدأ التزامه السياسي وتحركاته بين مراكشوالرباط. وخلال المواجهة بين قادة الحركة الوطنية وسلطات الحماية في الخمسينيات تمت سلسلة من الاعتقالات في صفوف شباب المدينة الحمراء. وكان من بين الشباب المعتقل محمد بنسعيد في مارس 1952، ونفي إلى قريته ووضع تحت الإقامة الجبرية. وأسس خلالها حزب الاستقلال في المنطقة. وفي فترة نفي السلطان محمد بن يوسف، انظم إلى جيش التحرير الحديث النشأة في 2 أكتوبر 1955 بالشمال. ويعتبر من بين مؤسسيه. وتولى مناصب مهمة في هذا التنظيم، كالتنسيق ومعالجة تصدع القيادة المركزية بالشمال، والمشاركة في لقاء مدريد بين قيادة المقاومة وجيش التحرير وزعماء حزب الاستقلال، لتقييم الأوضاع السياسية والعسكرية واستشراف الآفاق المستقبلية المطروحة أمام المغرب (ص. 83). وتحول جيش التحرير نحو الجنوب بعدما تم حله في الشمال، وذلك بأمر من الملك محمد الخامس واستجابة لنداء الموريتانيين الذين طلبوا الدعم من ملك المغرب. وفي الجنوب خاض جيش التحرير سلسلة من المعارك ضد إسبانيا وفرنسا، انهزم في بعضها وحقق انتصارات في بعضها الآخر واشتدت شوكته. وبعد ذلك بدأت تحاك حوله المؤامرات وعرف انشقاقات داخلية وتحالفات الخارجية، وانتهى الأمر بمعركة إيكوفيون/ “ايكو فيان”، وهي كلمة فرنسية قدحية تعني مشط الخيول. واندحر جيش التحرير، ونجا محمد بنسعيد بأعجوبة من محاولة اغتيال حقيقية، وبعدها توقفت جميع معارك جيش التحرير، وعقد مؤتمر بوخشيبة في 12 مارس 1958، بحضور ولي العهد الحسن الثاني الذي أوصى بتأييد الخطاب الملكي الذي ألقاه محمد الخامس في محاميد الغزلان في 26 فبراير 1958، والذي وعد فيه بمواصلة كفاحه المعهود لاسترجاع التراب المغربي الطبيعي والتاريخي والبشري. كما انعقد مؤتمر ثان في الرباط بعد سنة من المؤتمر الأول، والذي نص على نفس التوصيات السابقة.