تعزز المشهد الثقافي المغربي في العقدين الأخيرين بصدور عدد من المذكرات، من أبرزها مذكرات فاعلين سياسيين من هيئات تنتمي إلى اليسار المغربي. وتناولت هذه المذكرات بشكل متفاوت وبرؤى مختلفة، الأحداث الهامة والمصيرية أحيانا، التي عرفها المغرب زمن الحماية والاستقلال. وأثار مضمون هذه المذكرات وما جاء فيها من آراء ومواقف وتفسيرات ردود فعل متفاوتة، صدرت عن مثقفين وسياسيين ومهتمين من أطياف متعددة. وتم الاحتفاء غير ما مرة ببعض هذه المذكرات. كما تم تقديمها في عدد من المنابر والمؤسسات. وفي هذا السياق، ومساهمة منها في إثراء النقاش الدائر، وانسجاما مع اهتماماتها، نظمت مجلة رباط الكتب الإلكترونية لقاءً علميا بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، في موضوع ذاكرة اليسار. وساهمت في اللقاء الذي احتضنته المؤسسة بتاريخ 18 أبريل 2019، ثلة من الباحثين الجامعيين والشباب. وقد اختار المشاركون في اللقاء مقاربة موضوع الذاكرة، من خلال نماذج منتقاة هي: شهادات وتأملات لعبد الرحيم بوعبيد، وهكذا تكلم بنسعيد لمحمد بنسعيد آيت إيدر، وأحاديث فيما جرى لعبد الرحمن اليوسفي، ويوميات العمل الوطني المسلح لعبد السلام الجبلي، والمغرب الذي عشته لعبد الواحد الراضي. وحظيت هذه المساهمات بتمهيد نظري من خلال قراءة في كتاب ميلونكوليا اليسار: الماركسية، التاريخ، والذاكرة لإنزو ترافيرسو. مجلة رباط الكتب تفضلت بتقاسم ثمار هذا اللقاء مع قراء «أخبار اليوم»، والتي تنشرها على حلقات. نجد في “أحاديث” ع. اليوسفي جميع الخصائص المميزة للذاكرة، خاصة الجانب المتعلق بالحدود والإكراهات التي تطرحها أمام المؤرخ. وهذا ما يدفعنا إلى إبداء بعض الملاحظات التالية، متسائلين عن الحصيلة المعرفية التي تقدمها لنا مذكرات قائد حكومة التناوب. – تتعارض رواية عبد الرحمان اليوسفي مع رواية عدد من الفاعلين السياسيين الآخرين بخصوص بعض القضايا المهمة. مثلا، في مسألة اندلاع المقاومة المسلحة وتأسيس جيش التحرير، يصر اليوسفي على أهمية دور حزب الاستقلال في المقاومة المسلحة تنظيما وتنسيقا بفضل القيادات الجديدة من الشباب، في حين يؤكد عبد السلام الجبلي ومحمد بنسعيد آيت إيدر وسعيد بونعيلات، على أنه لا دور لحزب الاستقلال في انطلاق حركة المقاومة وجيش التحرير. – لا تشير المذكرات بالمرة إلى محادثات إيكس-ليبان. وبالتالي، لا نعرف من خلالها موقف شباب الحزب من هذه المحادثات، مع العلم أن بعض القادة التاريخيين للحركة الوطنية المغربية رفضوها، وعلى رأسهم علال الفاسي وعبد الله إبراهيم. – يتعمد اليوسفي السكوت على أحداث بارزة في تاريخ المغرب القريب، مثل المحاولتين الانقلابيتين وموقف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية منهما. كما لا يثير أي حديث حول الرسالة المتبادلة بين محمد الفقيه البصري والجنرال أوفقير قبل انقلاب 1972، والتي نشرتها جريدة لوجورنال سنة 2000 وورطت ضمنيا قيادات في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وبخصوص أحداث مولاي بوعزة، تطرق اليوسفي فقط للاعتقالات التي طالت قيادات الحزب، ولم يعلق بكلمة واحدة، سواء بالتبرئة والاتهام، حول مسؤولية محمد الفقيه البصري في التخطيط لها وتعيين منفذيها. – قصد ع. اليوسفي أن يقفز على مرحلة تاريخية مهمة كاملة دون أن يذكرها بشيء، ونعني المرحلة الممتدة بين سنتي 1975 و1992. ولا يخفى غنى هذه المرحلة بالأحداث المهمة مثل تطورات قضية الصحراء المغربية، وتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، واعتقال ع. بوعبيد سنة 1981، واندلاع انتفاضتي 1981 و1984. كما لا نعرف مثلا لماذا غير الاتحاد الاشتراكي موقفه من الاستفتاء في الصحراء وتبنى الموقف الرسمي؟ ولا نعرف أيضا لماذا تراجع الحزب عن مطلب الملكية البرلمانية في المؤتمر الوطني الرابع، وكان قد رفع هذا المطلب في المؤتمر الوطني الثالث. – لا يقدم اليوسفي أي تفسير واضح لفشل تجربة التناوب التي كانت لتبدأ منذ سنة 1993، وهي قضية مركزية في تاريخ المغرب الراهن، وفضل اللجوء إلى التلميح وتفادي التفاصيل، واكتفى بالقول: “لكن الوقائع المؤسفة التي مازالت عالقة في الأذهان، والتي لا داعي لتفصيل القول فيها، أجلت تحقيق ما كنا نصبو إليه ومططت مرحلة الانتظار والترقب، حيث مر من عمرنا أكثر من ست سنوات ضائعة…” (ص. 178). – نلاحظ عند اليوسفي تمجيدا لحزبه أكثر مما يمجد نفسه، وذلك إما بشكل صريح كما في قوله: “كل التناقضات تنمحي أمام التحالف ضد الاتحاد الاشتراكي، مما يدل على أن حزبنا هو القوة الوحيدة التي يخشاها الانتفاعيون والاستغلاليون”. وإما بتخصيص صفحات عديدة لإبراز ما يمكن أن نسميه “أمجاد الاتحاديين”، كما فعل عند الحديث عن دور حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في تقديم ملتمس الرقابة ضد الحكومة سنة 1964، إذ خصص له تسع صفحات مدعمة بوثيقة. أما عند الحديث عن المشاكل الداخلية فكان الرجل يعبر عنها بشكل مقتضب وسريع، بلا تفاصيل ولا أسماء. – تطرق ع. اليوسفي للإكراهات التي واجهت حكومة التناوب، لكنه تحاشى تسمية الجهات التي عرقلت إصلاحات حكومته، واكتفى باستعمال نعوت من قبيل: “مراكز مقاومة الإصلاح” و”التحالف المصلحي الاستغلالي” و”مراكز معارضة الإصلاح المستأسدة” و”مراكز مناهضة التغيير”. الواقع أن البياضات في مذكرات اليوسفي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها جميعا. لكن هذه الملاحظات ذات الطابع المنهجي لا تقدح في قيمة المذكرات عموما ومذكرات ع. اليوسفي خصوصا. فهي تبقى أحد المصادر المهمة لكتابة التاريخ القريب لبلادنا، والتي ستكون ذات نفع كبير لو وظفت بحس نقدي، وقوبلت مضامينها بأنواع أخرى من المصادر. وهدفنا الأساس هو “كشف عيوبها حتى لا تهيمن بشكل سلبي على حقل التاريخ، إن اختصارا لدوره أو في أحسن الأحوال مده بمادة مغشوشة ومشكوك في مصداقيتها”.