تعزز المشهد الثقافي المغربي في العقدين الأخيرين بصدور عدد من المذكرات، من أبرزها مذكرات فاعلين سياسيين من هيئات تنتمي إلى اليسار المغربي. وتناولت هذه المذكرات بشكل متفاوت وبرؤى مختلفة، الأحداث الهامة والمصيرية أحيانا، التي عرفها المغرب زمن الحماية والاستقلال. وأثار مضمون هذه المذكرات وما جاء فيها من آراء ومواقف وتفسيرات ردود فعل متفاوتة، صدرت عن مثقفين وسياسيين ومهتمين من أطياف متعددة. وتم الاحتفاء غير ما مرة ببعض هذه المذكرات. كما تم تقديمها في عدد من المنابر والمؤسسات. وفي هذا السياق، ومساهمة منها في إثراء النقاش الدائر، وانسجاما مع اهتماماتها، نظمت مجلة رباط الكتب الإلكترونية لقاءً علميا بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، في موضوع ذاكرة اليسار. وساهمت في اللقاء الذي احتضنته المؤسسة بتاريخ 18 أبريل 2019، ثلة من الباحثين الجامعيين والشباب. وقد اختار المشاركون في اللقاء مقاربة موضوع الذاكرة، من خلال نماذج منتقاة هي: شهادات وتأملات لعبد الرحيم بوعبيد، وهكذا تكلم بنسعيد لمحمد بنسعيد آيت إيدر، وأحاديث فيما جرى لعبد الرحمن اليوسفي، ويوميات العمل الوطني المسلح لعبد السلام الجبلي، والمغرب الذي عشته لعبد الواحد الراضي. وحظيت هذه المساهمات بتمهيد نظري من خلال قراءة في كتاب ميلونكوليا اليسار: الماركسية، التاريخ، والذاكرة لإنزو ترافيرسو. مجلة رباط الكتب تفضلت بتقاسم ثمار هذا اللقاء مع قراء «أخبار اليوم»، والتي تنشرها على حلقات. يتناول الفصل الخامس والأخير من مذكرات عبد الرحمان اليوسفي، “أحاديث فيما جرى: شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة”، إنجازات وتحديات حكومة التناوب التي ترأسها عبد الرحمان اليوسفي بين سنتي 1998 و2002. عين اليوسفي وزيرا أولا لحكومة التناوب في 4 فبراير 1998، بعد أن ضمن له الملك الحسن الثاني الأغلبية لمدة أربع سنوات، مع الإبقاء على إدريس البصري وزيرا للداخلية لخبرته في ملف قضية الصحراء المغربية، والإبقاء كذلك على وزراء الخارجية والعدل والأوقاف في مناصبهم التي شغلوها في الحكومة السابقة. ويؤكد اليوسفي أن الملك كان صادقا ومخلصا في رغبته في إنقاذ الأوضاع المتردية بالمغرب، ليكون في مستوى ولوج القرن الواحد والعشرين، إذ لمس الوزير الأول المعين في جلالته: “قرارا حقيقيا.. بالدخول في عملية إصلاح شاملة تتدارك ما فات وتؤسس لما هو آت” (ص. 183). وهكذا، فإن الداعي إلى تجربة حكومة التناوب، حسب اليوسفي، هو رغبة ملكية لإصلاح الأوضاع العامة بالبلاد بالتعاون مع المعارضة، وهو بتحليله هذا ينفي أن تكون حكومة التناوب داخلة في استراتيجية النظام، من أجل إدماج المعارضة في تدبير الشأن العام لضمان انتقال سلس للحكم من الملك إلى ولي عهده. حاول اليوسفي أن يحصي إنجازات حكومته، مثل الإصرار على تصريح الوزراء بممتلكاتهم، ومحاربة أشكال تبذير المال العام، والإلحاح على اجتماع الوزير الأول بالعمال والولاة شخصيا متجاوزا وساطة وزير الداخلية، وكذلك إلغاء احتكار الدولة للقطاع السمعي البصري، وفتح باب المناقصات في مجال الصفقات العمومية، والمصادقة على مدونة التغطية الصحية الأساسية. لكنه أشار إلى بعض الفضائح التي عرفتها البلاد في ظل حكومة التناوب، وركز على قضية شركة النجاة الإماراتية. وزيادة على هذا، أشار اليوسفي إلى أن عمل حكومته لم يكن سهلا ميسرا بسبب مناورات من سماهم “جيوب المقاومة”، دون أن يحدد بالضبط من يقصد بهذا الوصف، واكتفى بقوله: “إنه من الصعب تصوير هذه الجيوب تصويرا دقيقا، لكن الجميع يدرك أن من تمكن من بناء مصالح أثناء العهود السابقة، سيكون منخرطا في بنية هذه الجيوب” (ص. 190). لكن لم يفته أن يخص بالذكر شخص إدريس البصري دون غيره، إذ كان، في نظره، المسؤول عن تزوير الانتخابات وصناعة الأحزاب الإدارية. ويفتخر اليوسفي أنه، بقبوله الإبقاء على البصري في منصبه على رأس “أم الوزارات”، قد مكن حكومة التناوب من “مواجهة أي محاولة من شأنها التأثير على البرنامج الحكومي، حيث لم يعد (أي وزير الداخلية إدريس البصري) يقوم بنفس الدور الأساسي والرئيسي الذي كان يعتقد أنه الوحيد القادر على إنجازه” (ص. 190). بوفاة الملك الحسن الثاني في يوليوز 1999، انتهت حقبة كاملة من تاريخ المغرب، سمتها الأساسية الصراع من أجل السلطة بين الملكية والأحزاب سليلة الحركة الوطنية. وقد تم انتقال السلطة إلى ولي العهد بشكل سلس جدا، وشيعت جنازة الملك الراحل، وجرت مراسيم بيعة الملك الجديد بشكل عاد جدا. يقول اليوسفي بهذا الصدد: “استحسنت كثيرا الطريقة التي نظمت بها البيعة، فقد كانت حضارية. أنا شخصيا عشت لحظة اعتزاز تاريخية لأنه كان لي الشرف أن أكون على رأس الموقعين على مرسوم البيعة بعد الأسرة الملكية…” (ص. 206). وفي بدايات “العهد الجديد”، كان على حكومة التناوب الإشراف على أول انتخابات تشريعية في عهد الملك محمد السادس، في شتنبر 2002، التي تصدر نتائجها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وقد وصف اليوسفي هذه الانتخابات بكثير من الافتخار بأنها: “انتخابات نزيهة غير مطعون فيها”. وعقب صدور النتائج، قدم اليوسفي استقالته، على زعمه، إلى جلالة الملك بسبب ظروفه الصحية. اعتبر اليوسفي تعيين السيد إدريس جطو وزيرا أولا للحكومة الجديدة انحرافا عن “المنهجية الديمقراطية”، التي تقتضي أن يعين الوزير الأول من الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات. لكن الملك محمد السادس فضل الاستناد إلى دستور 1996 الذي يخول له صلاحية تعيين من يشاء وزيرا أولا. وبالتالي، أثير نقاش داخلي في حزب الاتحاد الاشتراكي حول الموقف الواجب اتخاذه من المشاركة في حكومة إدريس جطو. وفي النهاية انتصر الفريق القائل بعدم جدوى العودة إلى المعارضة وبضرورة الاستمرار في الحكومة “لإتمام المشاريع التي أطلقتها حكومة التناوب” (ص. 212). وبعد ذلك بسنة واحدة، قدم اليوسفي استقالته ككاتب أول لحزبه في أكتوبر 2003، كما اعتزل أيضا العمل السياسي..