أعتقد أن مغرب ما بعد كورونا يُصنع اليوم، وعالم ما بعد كورونا يصنع اليوم أيضا، ولا ينتظِرُ أحدا. هناك ديناميكيات متداخلة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، وهي تضع أسس ما بعد كورونا، رغم أنه من السابق لأوانه الحديث بلغة حازمة وإطلاقية، مادام أن ملامح المرحلة لازالت في طور التكون. طبيعة الدولة في عالم ما بعد كورونا ستكون دولة تدخلية وفاعلة، بما يؤدي إلى مراجعة عميقة للفلسفة الليبرالية من أسسها التي تتصور أن الدولة مجرد مقنن وحارس ومنظم. سمة الدولة التدخلية ستترافق مع سمة ثانية، وهي أننا سنشهد ما يسمى بدولة البيانات الضخمة التي يؤطر قرارها العمومي، ومدى قدرتها على ضبط البيانات الضخمة الناتجة عنها. التقسيم سيكون بين دول تتوفر على هذه البيانات وقادرة على استثمارها في سياساتها العمومية، ودول لا تتوفر عليها، وهذا تقسيم بدأ يتكون، حاليا، والمغرب في القسم الثاني. منظومة القيم، كذلك، ستعرف تغيرا، حيث يجري القبول الآن، بتقييد الحرية ولم تعد مرتبطة بفلسفة الحفاظ على النظام العام، بقدر ما أصبحت مرتبطة بالحفاظ على الصحة العمومية. لذلك، هناك قبول اجتماعي لتقييد الحريات من تنقل وغيره. هناك من يقول إن النموذج الديمقراطي في تأطير الفضاء السياسي سيتراجع، وهذا غير صحيح، فنحن نشهد أن دولا تتوفر على نمط سلطوي نجحت في مجابهة كورونا، وأخرى ذات نمط سلطوي وفشلت في الحرب، وثالثة ديمقراطية نجحت في الحرب مثل ألمانيا، ورابعة ديمقراطية فشلت. لا أظن إذن، أن تكون لذلك آثار على مستويات الانفتاح السياسي لأن هناك تعزيزا لثقافة ربط المسؤولية بالمحاسبة، وثقافة الإنجاز ومحاسبة الفاعل العمومي ومساءلته. راكم المغرب خبرة طيلة شهرين ونصف أفرزت استثناء مغربيا لا يمكن أن يشكك فيه أحد، ومغرب ما بعد كورونا يقوم على صيانة المكاسب التي تتحقق الآن. المكسب الأول هو أننا انخرطنا في مسار بناء منظومتنا الصحية على أسس جديدة تقوم على مركزية المواطن أولا، ولا يمكن أن يحيد المغرب عن هذا المسار لأنه مهم ويجب أن يُعطى الأولية. ثانيا، على مستوى منظومة جديدة للحماية الاجتماعية، فالمغرب تقدم بخطوات متسارعة، وهذا من ضمن المكاسب التي لا ينبغي التراجع عنها، كما يجب الإبقاء على الدعم. ثالثا، يجري الآن تجسيد مفهوم الإدارة الرقمية الذي كان سيستغرق سنوات ويمكن أن أقول إن هذا تحولا لا يمكن الاستغناء عنه. رابعا، إعطاء أولوية للقطاع الصناعي والاعتماد الذاتي، إذ لا يمكن أن نتصور الخروج من الحجر الصحي دون تعميم الكمامات. نحن نرى بعض التجارب الدولية، خاصة الصين التي صارت الكمامة في مجالها سلوكا في فلسفة الوقاية، ولا يمكن أن نوفر ذلك دون منظومة صناعية. إن ما استثمره المغرب لحد الآن في البحث العلمي، هو إيجابي، وعلينا أن نكرس مغرب البحث العلمي، وهذا غير ممكن دون منظومة تعليمية جيدة.