من المؤكد أن وفاة رجل الأعمال، فاضل العراقي، كانت مؤلمة لعائلته وأصدقائه، كما لكثير من الصحافيين والمواطنين الواعين بأهمية الصحافة المهنية، الأخلاقية والنقدية، المنفلتة من قبضة السلطة ورحمتها. لكن رحيل فاضل، في زمن كورونا، جعل الفقد أشد مضاضة وإيلاما؛ لأن الرجل ذهب في مقتبل العمر والعطاء، ولأنه مقاول صاحب رأسمال شجاع، والقاعدة الكونية تقول إن رأس المال جبان. لقد استثمر فاضل العراقي في مجال خاسر وملعون، لا تقتصر خسارته على الاستثمار في مجال الصحافة فحسب، بل تطارد، مثل لعنة أسطورية، باقي المجالات التي يمكن أن يستثمر فيها. ومع كل المعاناة التي كابدها الرجل، جراء مساهمته في رأسمال «لوجورنال» و«الصحيفة»، لم يخرج يوما باكيا مشتكيا، بل ضمد جراحه في الظل وسكَّن آلامه في صمت. وما رشح عن نبل الرجل وبوهيميته، حكاه أصدقاؤه وشركاؤه في التجربة الصحافية التي أصبحت ملمحا من ملامح الوجه المشرق للمغرب. وإذا أردنا أن نختزل فضائل فاضل العراقي في فضيلتين اثنتين، فلنقل إنه، أولا، زهد، بصوفية نادرة، في المال الذي من شأنه أن يحد من حرية واستقلالية التجربة الصحافية التي كان المساهم الرئيس فيها، وأنه، ثانيا، نأى بنفسه عن التدخل في عمل هيئة التحرير مهما كانت جرأة العمل الصحافي. وسأسوق في هذا الصدد حكايتين؛ الأولى، أنه رفض، بلا تردد، العرض الذي نقله إليه فؤاد عالي الهمة من الحسن الثاني بمنح «لوجورنال» شيكا بخمسة ملايير لشراء مطبعة للجريدة. والثانية، أنه عندما تحولت «الصحيفة» إلى جريدة يومية، ونشرت على صدر صفحتها الأولى مقالا، غير مسبوق في جرأته، عن الملك، تبين لاحقا أنه غير دقيق، اتصل فاضل بمدير الجريدة، محمد حفيظ، وقال له، بهدوئه المعتاد، إنه توصل بمكالمات هاتفية أخبرته بأن الجريدة نشرت مقالا عن الملك، ثم سأله، بالهدوء نفسه، عن طبيعة المقال. هذا هو فاضل العراقي، وهذا ما ميزه عن كثير من المستثمرين في الصحافة الذين تحولوا إلى رؤساء لرؤساء التحرير، فوضعوا، إلى جانب الخطوط الحمراء أخرى وردية، لا يُسمح فيها بقول «لا» إلا في ركن الوفيات من خلال شهادة «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وتجنبا لكل التباس، فإننا لا نقصد هنا «لا» المعارضة، بل «لا» التي يجب أن يشهرها كل صحافي مهني في وجه أي صاحب سلطة، فعلية أو رمزية، يريد توجيهه واستعماله وتحويله من صحافي إلى بوق. إن أهمية الحديث عن فاضل العراقي، في هذه اللحظة بالذات، لا تأتي من باب اذكروا محاسن موتاكم. فأن نقول في رجل من هذه الطينة النادرة ما قلناه، هو أضعف الإيمان، ثم إن كل استحضار لمناقبه لن يضيف إلى ما سبق أن كتبه وقاله عنه، قيد حياته، شركاؤه في تجربة «لوجورنال» و«الصحيفة». لكن، الأهمية الجمعية (الوطنية والمواطنة) الراهنة، للمرحوم فاضل العراقي -في زمن كورونا للتدقيق- تكمن في حاجة المغرب الملحة إلى مستثمرين تتوفر فيهم ثلاث مواصفات، من شبه المستحيل توفرها، اليوم، في مستثمر في الصحافة، والصحافة الورقية بالخصوص؛ المواصفة الأولى، أن يضع أمواله في مجال يعرف أنه يصطدم يوميا بسلطة أصبحت تضيق ذرعا، أكثر فأكثر، بحرية التعبير وبهامش استقلالية الصحافة. المواصفة الثانية، أن يضع أمواله في مجال يعرف أن نموذجه الاقتصادي يقوم، أساسا، على الإشهار، في بلد الإشهار فيه إما مسيس وإما متحكم فيه من لدن السلطة، أو أن المستشهرين خائفون من السلطة، ويساهمون في ضرب الحصار على الصحافة المغضوب عليها، حتى دون أن يتلقوا الأوامر من السلطة. المواصفة الثالثة، أن يبيع منتَج القراءة في بلد منسوب الذين لا يقرؤون فيه كبير.. بلد لم يؤسس تقاليد قراءة الصحف، والدولة فيه لم تتبن استراتيجية معقولة لدعم القراءة، كما أن المنافسة الإلكترونية أضرت كثيرا بالصحافة الورقية، ناهيك عن أن سوق الصحافة الورقية كان كاسدا قبل كورونا، وتوقف تماما مع انتشار الفيروس، ويتوقع المهنيون أن يجتر هذا السوق أعطابا إضافية بعد توقف انتشار الوباء وعودة الحياة إلى دورتها العادية. إننا، حتى لو أسعفنا الحظ وعثرنا على رجل أعمال مواطن لا يريد الربح المالي من الصحافة، بقدر ما يسعى إلى المساهمة في بناء سلطة رابعة، وعيا ومساهمة منه في بناء دولة المؤسسات، فمن المستحيل أن نجد رجل أعمال يقبل الاستثمار في صحافة تعتبرها السلطة عدوا لها، وتسعى في حصارها و«تتريك» القائمين عليها، ومطاردتهم حتى في المجالات التي يستثمرون فيها خارج الصحافة، هذا إن لم يجدوا أنفسهم في قلب متابعات، حق عام، جنائية، لا قِبل لهم بها، مثلما حدث لفاضل العراقي في قضية «سرقة الكؤوس الملكية»، ومحمد العسلي في قضية «تهريب الأموال إلى الخارج»، وتوفيق بوعشرين في قضية «الفيلا»، ثم قضية «الاغتصاب والاتجار بالبشر»… ما أحوجنا، في هذه اللحظة -لحظة كورونا وما سيترتب عليها لاحقا- إلى مستثمرين بسخاء وصمت وحكمة وشجاعة ونكران ذات المرحوم فاضل العراقي، الذي دعم تجربة صحافية لم تكن، فقط، تسبح ضد تيار السلطة، بل، أيضا، ضد تيار صحافة التسطيح والابتذال والبروباغاندا والتشهير بمن لا ترضى عنهم السلطة. ويكفي أن نذكر بأن «لوجورنال»، التي خصصت 25 في المائة من أغلفتها لانتقاد المؤسسة والمحيط الملكيين، لم تكتب أي حرف يسيء إلى فؤاد الفيلالي، بعدما أبعد عن الهولدينغ والمربع الملكي، في الوقت الذي هاجمته صحافة السلطة، وتجرأت على ذكره بلقب «بيم بوم» الذي كان يمازحه به أصدقاؤه داخل القصر، فما كان منه إلا أن قال: «هذه هي أخلاق الكبار.. «لوجورنال» التي كانت تنتقدني بشدة عندما كنت في السلطة، تترفع عن الإساءة إلي بعدما أبْعِدْتُ عنها، ومديرو الجرائد الذين كانوا يلعقون حذائي، أصبحوا يتطاولون علي». فكم نحتاج من فاضل العراقي ومن «لوجورنال» و«الصحيفة» لمواجهة الصحافة التي كانت، بالأمس القريب، تجري وراء «نيبا» و«إكشوان» و«علال القادوس»، وها هي اليوم تتبع رجال وأعوان سلطة مهرجين في مهرجان كورونا؟ رحم الله فاضل العراقي وأكثر من أمثاله.