إذا كان المغاربة اليوم في حاجة إلى بعضهم البعض أكثر من أي وقت مضى، فإن البعض وجد في اللحظة الحرجة التي يمر منها المغرب فرصة للدعوة إلى خطوة إصلاحية شاملة، تتجاوز التعبئة الجماعية ضد كورونا إلى إجراءات ذات طبيعة سياسية وحقوقية، مثل الدعوة إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وخصوصا معتقلي حراك الريف والصحافيين توفيق بوعشرين وحميد المهداوي. يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة مراكش، عبدالرحيم العلام، أن اللحظة الحالية هي “أفضل توقيت، يمكن فيه الحسم في ملف الريف، وذلك بأن يتم لأسباب إنسانية محضة، إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية حراك الريف، ومعهم كل معتقلي الرأي، وأيضا المحكومين بقضايا ذات طبيعة اجتماعية أو سياسية من الذين لا يشكلون خطرا على المجتمع”. وأضاف “نعم، إنها أفضل مناسبة، تُمكّن النظام السياسي المغربي من حسم المسألة دون أي خسائر تصيب شعبيته أو تضر بهيبته؛ فالحدث عن الموضوع برمته لن يستغرق حتى يوم واحد داخل وسائل الإعلام والمجتمع، ولن تكون له تأثيرات سياسية في صالح المُفرج عنهم، بل سيزيد من شعبية ما تقوم به السلطة ويعطيها المزيد من الدعم . إنها فرصة سانحة حقا، فهل يتم استغلالها من أجل مصالحة حقيقية وإراحة الجميع (دولة، مجتمعا، عائلات، معتقلين…) من هذا الملف المكلف سياسيا واجتماعيا؟ أرجو ذلك”. هذه الدعوة إلى مصالحة تستثمر أجواء الإجماع ضد كورونا، وتبدأ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين جاءت، أيضا، من قبل شخصيات سياسية وفكرية وإعلامية أطلقوا “نداء الأمل”، ناشدوا من خلاله الملك محمد السادس العفو عن معتقلي حراك الريف والصحافيين المعتقلين. النداء وقعت عليه شخصيات وازنة أمثال إسماعيل العلوي، زعيم سابق لحزب التقدم والاشتراكية، والروائي والوزير السابق بنسالم حمّيش، والفنان نعمان لحلو، وآمنة ماء العينين برلمانية حزب العدالة والتنمية، ومحمد حفيظ القيادي في حزب الاشتراكي الموحد، ونحو 200 من القيادات الفكرية والسياسية والثقافية من مشارب مختلفة، ممن اعتبروا أن المغرب يعيش “محنة غير مسبوقة جراء تفشي وباء كورونا المستجد”، وأن “التدابير الوقائية والاحترازية” التي اتخذتها الحكومة “لقيت صدى واسعا لدى المواطنين الذين استجابوا للترتيبات الاستباقية، وتفاعلوا معها بما تتطلبه اللحظة من وعي ومسؤولية”. الإجماع حول الدولة ضد كورونا هو الرابع من نوعه، بحسب الحقوقي خالد البكاري، ففي بيانات العدل والإحسان والنهج الديمقراطي والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، حول فيروس كورونا المستجد، “نلحظ خفوتا في نبرة الاعتراض المألوفة، ونوعا من الليونة والتعبير الضمني عن الاستعداد للتعاون في هذه المرحلة، وتأجيل الخلافات العميقة إلى ما بعد كورونا”، وهي الرسالة التي يرى البكاري أن تصريح وزير الداخلية في البرلمان، تنطوي على “رد للتحية”، لكنه اعتبر أن تصريح وزير الداخلية “سيكون أكثر تعبيرا عن حاجة البلاد إلى كل أبنائها، لو جرت المسارعة إلى الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين”. الإجماع الأول، حسب البكاري، كان بين الملكية والحركة الوطنية في مواجهة الاستعمار، “لكنها ورقة سقطت غداة الاستقلال بفعل شهوة السلطة”. فيما كانت قضية الصحراء محور الإجماع الثاني بين الملك الحسن الثاني وقوى المعارضة من أحزاب الحركة الوطنية في منتصف السبعينيات، بعد فشل محاولتين عسكريتين للانقلاب على الملكية. وتبلور الإجماع الثالث عقب علم الملك الحسن الثاني بمرضه أثناء زيارة للولايات المتحدةالأمريكية سنة 1994، ثم عاد ليخطب حول السكتة القلبية التي تتهدد المغرب، وهو الخطاب الذي تضمن انتقادات ذاتية، وفتح الباب أمام إشراك المعارضة في الحكم، توجت في حكومة التناوب التوافقي بقيادة عبدالرحمن اليوسفي. هذه القراءة المتفائلة لمرحلة ما بعد جائحة “كورزن”، يقابلها تعليق حذر للباحث الاقتصادي رشيد أوراز، والذي قال إن “ما نراه اليوم من إجماع حول الدولة نابع من تخوف الناس من آثار الكارثة المحدقة بهم، وبالتالي، فهم مستسلمون لإجراءات السلطة دون أي اعتراض، وتركوا طلباتهم الاجتماعية جانبا، لكن إلى أن يزول الخطر، إذ بعد أسابيع أو أشهر سيعود الناس لإثارة المطالب القديمة المتعلقة بتحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية، وجودة خدمات الإدارة والبنية التحتية، وهذا سيرفع مستوى الطلب الاجتماعي وسنعود مرة أخرى إلى المربع الأول”. كورونا والإجماع حول الدولة.. فرصة للمصالحة تحظى سياسة الدولة في مواجهة فيروس كورونا بإجماع منقطع النظير. حتى المعارضات الإسلامية واليسارية، مثل جماعة العدل والإحسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، انخرطت في تثمين التدابير الاحترازية للحد من انتقال العدوى بين المواطنين، ودعوتهم إلى الالتزام بها، بل وعبرت تلك الهيئات عن استعدادها للدعم والمساندة. بلاغ هيئة أطباء جماعة العدل والإحسان حول الموضوع لا يختلف كثيرا عن أي بلاغ لأي حزب سياسي مشارك في الحكومة “لقد اتخذت الدولة تدابير احترازية للحد من انتقال عدوى الوباء بين المواطنين، لا نملك إلا تثمينها، وندعو إلى التعاون من أجل إنجاحها وتيسير احترامها”. عبدالرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية، لاحظ هذا الإجماع على الدولة في مواجهة فيروس كورونا، عندما قال إن: “النظام السياسي المغربي اليوم، يحوز أكبر شعبية له، ربما، منذ عهد محمد الخامس؛ إذ هناك شبه إجماع على فاعلية ما تقوم به السلطة في مواجهة الأزمة، أكسب الثقة في الدولة من لدن الناس فيما يُتخذ من إجراءات تكاد تكون استثنائية”. فما سرّ هذا الإجماع من لدن المواطنين حول الدولة؟ وهل تجرؤ السلطة على أن تجعل من أزمة كورونا فرصة لتعزيز هذا الإجماع بمصالحة سياسية تكون أساسا لبناء عقد اجتماعي جديد؟ الإجماع حول الدولة الإجماع حول الدولة في اللحظة التي يمر منها المغاربة والبشرية جمعاء تؤكده مواقف قوى المعارضة، أساسا، مثلما تؤكده مواقف المواطنين. يمكن في هذا الصدد، الإشارة إلى مواقف جماعة العدل والإحسان، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ونشطاء حقوقيين ومثقفين وإعلاميين. المؤرخ والحقوقي المعطي منجب كتب قائلا: “مثل كل واحد، أخاف على بلادي”، وأضاف “أنا أعلم أن الأغلبية الساحقة من المغاربة، ومهما كان وضعهم الاجتماعي وسلطتهم، صغيرة أو كبيرة، يفعلون كل ما بوسعهم للتخفيف من الخطر الداهم الذي ينخر بلادنا. أفكر بشكل خاص في الأطباء، والممرضات والممرضين، وجميع العاملين في مجال الصحة الذين يظهرون في خطر حياتهم كل صباح الى منصب عملهم”. من جانبه، اعتبر الحقوقي، خالد البكاري، أن الإجماع الحاصل، حاليا، بين الدولة والشعب في مواجهة كورونا، هو الإجماع الرابع من نوعه في تاريخ المغرب، منذ أول إجماع بين الحركة الوطنية والملك الراحل محمد الخامس ضد الاستعمار الفرنسي. البكاري تحدث بلغة إيجابية تتوجه إلى المستقبل بقوله: “أمام وباء كورونا المستجد نحتاج إلى جبهة داخلية قوية، وأعتقد أن الجميع واع بهذا الأمر، وثمة رسائل ضمنية في هذا الاتجاه”، مؤكدا “في بيانات العدل والإحسان، والنهج الديمقراطي، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، نلحظ خفوتا في نبرة الاعتراض المألوفة، ونوعا من الليونة والتعبير الضمني عن الاستعداد للتعاون في هذه المرحلة، وتأجيل الخلافات العميقة إلى ما بعد كورونا”، مشيرا إلى أن تصريح وزير الداخلية أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان في البرلمان “يمكن قراءته بما يشبه رد التحية، حين تحدث أن الوطن يحتاج إلى الجميع، بل إن وزارة الداخلية لم تساير هذه المرة تهافت البعض على اتهام العدل والإحسان بالوقوف وراء بعض المسيرات الليلية التي كان واضحا من خلال الفيديوهات غلبة السلفيين و«الحيطيست» عليها”. الثقة في التدابير الاحترازية للدولة أكدتها نتائج استطلاع للرأي، أجراه المعهد المغربي لتحليل السياسات، الذي أظهر أن 82 في المائة من المغاربة يتفادون الخروج من منازلهم، إلا في حالات الضرورة، خشية الإصابة بفيروس كورونا، امتثالا لقرار الحجر الصحي. الاستطلاع الذي أجراه المعهد بعنوان: “فيروس كورونا المستجد: آراء المغاربة حول التدابير الحكومية”، خلال الفترة ما بين 14 و19 مارس الجاري، شمل عينة من 2470 مغربيا، تبلغ أعمارهم 18 عامًا أو أكثر، موزعين على مختلف جهات المملكة ال”12”. وكشف الاستطلاع أن 96 في المائة من المغاربة قلقون وقلقون جدًا من تفشي وباء كورونا في البلاد، و81 في المائة ممن شملهم الاستطلاع قلقون من الإصابة بالفيروس. بل إن الاستطلاع أظهر أن 90 في المائة قلقون وقلقون جدا من تأثير الفيروس على النشاط الاقتصادي المغربي. وحول مدى استجابة المواطنين لنصائح وزارة الصحة، أفاد 12 في المائة بأنهم ارتدوا قناعا طبيا (كمامة)، في حين أجاب 97 في المائة بأنهم “التزموا بغسل أيديهم مرات عدة في اليوم”. وحول التدابير التي اتخذتها الحكومة في هذه الظرفية التي تمر بها البلاد، أكد 100 في المائة من المستجوبين عن موافقتهم على “منع التجمعات الكبيرة”، و100 في المائة منهم وافقوا عن “منع السفر من وإلى المغرب”. بل إن 99 في المائة وافقوا على “توقيف الدراسة في المدارس العمومية والخاصة”، و90 في المائة وافقوا على “توقيف صلاة الجمعة وصلاة الجماعة في المساجد”. تفسير هذا الإجماع على تدابير الدولة يغلب عليه العامل النفسي والخوف من هذا الخطر الداهم. المعطي منجب أوضح في حديث مع “أخبار اليوم” أن “رد فعل الشعب المغربي تجاه التدابير الاحترازية للدولة يشبه ردود الفعل التي كانت تحدث حين يداهم المغرب خطر أو عدوان خارجي”. وأشار منجب إلى أن بعض السلاطين وحدوا المغرب بأن جعلوا من الخطر الخارجي فرصة سانحة لذلك، وهو ما فعله السلطان المولى إسماعيل. لكن منجب نبّه إلى أن مساهمة الشعب المغربي في مواجهة الخطر على قدر المساواة، يدفعهم إلى المطالبة بالمساواة مرة أخرى بعد دفع الخطر وإلحاق الهزيمة به، وعلى سبيل المثال “حين هاجم الإيبيريون الشواطئ المغربية، طالبت بعض القبائل الريفية بعدم دفع الضرائب مقابل حماية الأراضي المغربية”. تماما مثلما حصل بعد الاستقلال عن فرنسا سنة 1956 “فالفئات والنخب الحضرية طالبت، بعد مشاركتها في مقاومة المستعمر، بالمشاركة في السلطة، كما طالب بذلك حزب الاستقلال، وبالتوزيع العادل للثروة التي تصدرت مطالب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”. أما توفيق عبدالصادق، باحث في القانون العام والعلوم السياسية، فقد فسّر هذا الإجماع بقوله: “عندما يتعرض الإنسان لخطر الغرق، وينتابه الهلع والخوف، فإنه يتشبت بكل شيء حتى ولو كان قشة أو وهمًا”. إذ هو العامل النفسي، وحب البقاء والاستمرارية، ما يدفع الناس إلى التكتل والتوحد في مواجهة الخطر الداهم. لكن عبدالصادق يرى أنه “رغم أن الدولة قامت بتدبير الأزمة بحنكة حتى الآن، إلا أن تفسير هذا الإجماع هو نفسي بالدرجة الأولى، وربما لعبت فيه مواقع التواصل دورا محوريا، ومن غير المستبعد أن تكون جهات توجه هذه المواقع لتعزيز الإجماع والتوحد”. عبدالصادق أشار، أيضا، إلى مفارقة وهي أن “هذه الدولة، للغرابة، هي المسؤولة عن حالة الخوف نتيجة سياساتها في الصحة والتعليم منذ عقود، وهي في الوقت عينه المنقذ من هذا الوباء الداهم”.
الإجماع الرابع لكن ليست هذه المرة الأولى التي يحصل فيها الإجماع حول الدولة، بل سبق وأن تكرر، بحسب الحقوقي، خالد البكاري، خمس مرات في التاريخ المعاصر للمغرب، أي منذ الاستقلال عن فرنسا سنة 1956. الإجماع الأول كان بين الملكية والحركة الوطنية في مواجهة الاستعمار، لكنها ورقة سقطت غداة الاستقلال بفعل شهوة السلطة، استقلاليون ضد شوريين، وتقدميو الاستقلال نفسه ضد محافظيه، ثم فريق ولي العهد حينئذ الأمير الحسن ضد كل من له نزوع إلى مشاركة القصر في الحكم. قضية الصحراء كانت موضوع الإجماع الثاني بين الملك الحسن الثاني وقوى المعارضة من أحزاب الحركة الوطنية في منتصف السبعينيات، بعد فشل محاولتين عسكريتين للانقلاب على الملكية. لكن لأن ذلك الإجماع استثنى قوى سياسية واجتماعية أخرى، فقد فشل الإجماع حول الصحراء في تشكيل حزام سياسي واسع يعزز من الحريات والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة. الإجماع الثالث تبلور عقب معرفة الملك الحسن الثاني بمرضه أثناء زيارة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1994، ثم عاد ليخطب حول السكتة القلبية التي تتهدد المغرب، وهو الخطاب الذي تضمن انتقادات ذاتية، وفتح الباب أمام إشراك المعارضة في الحكم، توجت بحكومة التناوب التوافقي بقيادة عبدالرحمن اليوسفي، الذي كان “إجماعا ناقصا”، يقول البكاري، “أملته ضرورات توريث العرش”، ولأنه استثنى قوى إسلامية ويسارية وازنة أيضا حتى اليوم، اللهم التحاق بعض النخب اليسارية الراديكالية سابقا بأجهزة السلطة في سياق تجربة الإنصاف والمصالحة. علما أن المعارضة لم تعد ممثلة في جماعة العدل والإحسان واليسار الجذري، بل أضحت تتشكل، كذلك، من الحركات الاجتماعية والناشطين المدنيين والمعارضة الرقمية. الإجماع حول الدولة ضد كورونا هو الرابع من نوعه، بحسب البكاري، ففي بيانات العدل والإحسان والنهج الديمقراطي والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، حول فيروس كورونا المستجد، “نلحظ خفوتا في نبرة الاعتراض المألوفة، ونوعا من الليونة والتعبير الضمني عن الاستعداد للتعاون في هذه المرحلة، وتأجيل الخلافات العميقة إلى ما بعد كورونا”، وهي الرسالة التي يرى البكاري أن تصريح وزير الداخلية في البرلمان، تنطوي على “رد للتحية”، لكنه اعتبر أن تصريح وزير الداخلية “سيكون أكثر تعبيرا عن حاجة البلاد إلى كل أبنائها، لو جرت المسارعة إلى الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين”. وتساءل البكاري “هل يستوعب النظام الدرس هذه المرة، ويعلم أن الخطورة لا تكمن في المعارضات، بل هي السياسات التي تضرب قطاعي الصحة والتعليم وتفقر الأغلبية، والخطورة، كذلك، من جانب من يزينون هذه السياسات لأغراض في أنفس المنتفعين قضوها”. عبدالرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية، يرى أن الإجماع ضد كورونا منح “النظام السياسي المغربي اليوم أكبر شعبية له، ربما، منذ عهد محمد الخامس”؛ ما يعني أنها شعبية تفوق كل الإجماعات التي تحققت حوله، والتي سبق ذكرها. حتى أن “أكثر النقاد يغضون الطرف عن بعض الإجراءات التي تخالف قواعد الشرعية، بل هو السبب في “تعامي” المنظمات الحقوقية عن بعض التجاوزات، لأنه خلال حالة الاستثناء تنقلب الأولويات الحقوقية ويصبح أكبر حق إنساني هو الحق في الحياة”، وأضاف العلام قائلا: “تقريبا، هناك مصالحة حقيقة بين المواطن وأجهزة الأمن، وأتمنى أن لا تكون ظرفية”. وأردف “نعم، قد يتم التغافل عن الشرعية، لكن لن يتنازل المواطن عن المشروعية، حيث ينبغي أن يكون كل شيء في صالح المواطن حقيقة، وليس ادّعاءً”. كورونا فرصة للمصالحة إذا كان المغاربة في حاجة إلى بعضهم البعض أكثر من أي وقت مضى، حسب تصريح وزير الداخلية، فإن البعض وجد في اللحظة الحرجة التي يمر منها المغرب فرصة للدعوة إلى مصالحة حقيقية، تتجاوز التعبئة الجماعية ضد كورونا إلى إجراءات ذات طبيعة سياسية وحقوقية، مثل الدعوة إلى إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين، وخصوصا معتقلي حراك الريف والصحافيين توفيق بوعشرين وحميد المهداوي. عبدالرحيم العلام يرى أن اللحظة الحالية هي “أفضل توقيت، يمكن فيه الحسم في ملف الريف، وذلك بأن يتم لأسباب إنسانية محضة، إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية حراك الريف، ومعهم كل معتقلي الرأي، وأيضا المحكومين بقضايا ذات طبيعة اجتماعية أو سياسية من الذين لا يشكلون خطرا على المجتمع”. وأضاف “نعم، إنها أفضل مناسبة، تُمكّن النظام السياسي المغربي من حسم المسألة دون أي خسائر تصيب شعبيته أو تضر بهيبته؛ فالحدث عن الموضوع برمته لن يستغرق حتى يوم واحد داخل وسائل الإعلام والمجتمع، ولن تكون له تأثيرات سياسية في صالح المُفرج عنهم، بل سيزيد من شعبية ما تقوم به السلطة ويعطيها المزيد من الدعم . إنها فرصة سانحة حقا، فهل يتم استغلالها من أجل مصالحة حقيقية وإراحة الجميع (دولة، مجتمعا، عائلات، معتقلين…) من هذا الملف المكلف سياسيا واجتماعيا؟ أرجو ذلك”. الدعوة إلى مصالحة تستثمر أجواء الإجماع ضد كورونا، وتبدأ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين جاءت، أيضا، من قبل شخصيات سياسية وفكرية وإعلامية أطلقوا “نداء الأمل”، ناشدوا من خلاله الملك محمد السادس العفو عن معتقلي حراك الريف والصحافيين المعتقلين. النداء وقعت عليه شخصيات وازنة أمثال إسماعيل العلوي، القيادي في التقدم والاشتراكية، والروائي والوزير السابق بنسالم حمّيش، والفنان نعمان لحلو، وآمنة ماء العينين برلمانية حزب العدالة والتنمية، ومحمد حفيظ، القيادي في حزب الاشتراكي الموحد، ونحو 200 من القيادات الفكرية والسياسية والثقافية من مشارب مختلفة، ممن اعتبروا أن المغرب يعيش “محنة غير مسبوقة جراء تفشي وباء كورونا المستجد”، وأن “التدابير الوقائية والاحترازية” التي اتخذتها الحكومة “لقيت صدى واسعا لدى المواطنين الذين استجابوا للترتيبات الاستباقية، وتفاعلوا معها بما تتطلبه اللحظة من وعي ومسؤولية”. وأضاف الموقعون أن هذه المحنة كشفت “عن الوجه المشرق لمجتمعنا الذي انتصب، بكافة فئاته، للتصدي للآفة، وذلك باجتراح أشكال جديدة ومتعددة من التضامن، وبالانخراط الواسع في حملة التبرعات للصندوق الخاص بتدبير جائحة كورونا، أشكال لابد من تثمينها وتطويرها والاستثمار فيها، لأنها هي القيمة المطلقة المؤسسة للأمم والحضارات، وهي القاعدة الارتكازية التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي، والمدخل الرئيس إلى التنمية المتوازنة، العادلة والشاملة”. وأضاف النداء أن المجتمع المغربي برمته، في غمرة هذه المحنة، بدأ “يستعيد ثقته في الدولة، وفي مؤسساتها، وفي أطرها المجندة، لما أبانت عنه، خلال هذه الأيام العصيبة، من رؤية استراتيجية وإرادة استباقية لتجاوز أسباب الأزمة ومعالجة مخلفاتها، ومن مسؤولية في الأداء وتضحية من أجل سلامة المواطنات والمواطنين. وما من شك في أن عودة الثقة هذه سوف تُمكِّن المواطن من بناء الوطن، كما سوف تُمكِّن الوطن من بناء المواطن”، مناشدين الملك محمد السادس إلى إصدار “عفو ملكي شامل على كافة المعتقلين على خلفية حراك الريف، وعلى الصحافيين المحكومين منهم والمتابعين”، وهو ما من شأنه “أن يعزز هذا الظرف الوطني التعبوي، وأن يقوي مناعته المرجوة، ويزيد من ثقتنا وأملنا في المستقبل”. الدعوة عينها تكررت على لسان نخب حقوقية وجامعية وإعلامية أطلقوا عريضة وطنية من أجل إطلاق كافة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والحركات الاجتماعية والتخفيف من اكتظاظ السجون. العريضة التي وقع عليها الحقوقي والنقيب عبدالرحمان بنعمر، والمؤرخ والحقوقي المعطي منجب، والحقوقي عبدالإله بنعبدالسلام، وهيئات حقوقية مثل الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان، ومنتدى كرامة لحقوق الانسان، دعت بوضوح إلى “إطلاق مسار جديد من المصالحة الوطنية، وتوقيف جميع المحاكمات التي يتابع فيها نشطاء اليوتوب والصحافيون والمدونون وكتاب الرأي وكل المتابعين لأسباب سياسية”، كما طالبت ب”إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والحركات الاجتماعية”، وشددت على ضرورة التخفيف من الاكتظاظ في السجون، واعتبرت أن الدولة مدعوة إلى اتخاذ إجراءات ذات طابع إنساني تستهدف سجناء وسجينات الحق العام خصوصا المسنين لأكثر من 60 سنة، والمرضى، والنساء اللواتي لهن أطفال خارج السجن. لكن، وعلى خلاف من يرى أن الإجماع حول الدولة ضد كورونا يمكن أن تجعل منه السلطة فرصة لمصالحة جديدة، يرى رشيد أوراز، باحث رئيسي في المعهد المغربي لتحليل السياسات، أن حدوث ذلك “يتوقف على عمق الأزمة ومداها، وعلى تأثيرات هذا الوباء في الأمد القصير والمتوسط”. مؤكدا أنه “إذا نجحت الدولة في محاصرة هذا الوباء، ستحظى بزيادة نسبية في منسوب الثقة فيها. لكن بشكل مؤقت فقط”. واعتبر أوراز أن “ما نراه اليوم من إجماع حول الدولة نابع من تخوف الناس من آثار الكارثة المحدقة بهم، وبالتالي، فهم مستسلمون لإجراءات السلطة دون أي اعتراض، وتركوا طلباتهم الاجتماعية جانبا، لكن إلى أن يزول الخطر، إذ بعد أسابيع أو أشهر سيعود الناس لإثارة المطالب القديمة المتعلقة بتحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية، وجودة خدمات الإدارة والبنية التحتية، وهذا سيرفع مستوى الطلب الاجتماعي وسنعود مرة أخرى إلى المربع الأول”. أوراز اعتبر، أيضا، أن “حديثا عالميا مبالغا فيه يجري اليوم حول آثار كورونا على حركة العولمة وعلى الرأسمالية العالمية، لكن يتناسى كثيرون أنه في أغلب بقاع العالم حضور الدولة حضور طاغ جدا وحجمها كبير، وبالتالي، ليست هناك هوامش لتتوسع فيها إلا ما يتعلق باستثمار التكنولوجيات الحديثة في تتبع المواطن بشكل يومي، وهذا ما بدأ تنفيذه في الصين قبل ظهور فيروس كورونا، وقد أعطت الصين لنفسها شرعية استعمال هذه التقنيات الحديثة في مراقبة المواطن، لكن هل الفرد الحديث في الغرب مثلا سيتنازل بسهولة عن حياته الخاصة والفردية مقابل أن تحميه الدولة من مخاطر الفيروسات والأوبئة؟ لا أظن ذلك”. ومضى قائلا: “سنبقى بعد كورونا في إطار الجدل القديم عينه، حدود سلطة الدولة ومدى حرية الفرد، وهذا هو عمق الإشكال الذي يمكن أن يتأسس عليه أي عقد اجتماعي جديد. لكن تقديري أن هذا النقاش الذي استغرق قرونا من الزمن لن يقع حسمه مجددا بسبب وباء عابر، سيطرت عليه بلدان أخرى في أقل من شهرين بفعل تدابير استثنائية”.