ما كان يبدو بعيد المنال، بات حقيقة الآن، في حزب الأصالة والمعاصرة. عبداللطيف وهبي، الرجل الذي طالما نُظر إليه بازدراء وخوف أيضا، يصبح أمينا عاما للحزب. المؤتمر الرابع للحزب نفسه، وقد أنهى أعماله، أمس الأحد، لم يكن طبيعيا، وغلبت عليه الاضطرابات، لكن الوصفة القديمة في تدبير حزب غير طبيعي، نجحت في إقرار تسويات النجاح. لكن كيف تطورت الأشياء من اليوم الأول، وقد فتكت بها الخلافات إلى اليوم الأخير، حيث تحول كل شيء إلى سكون غريب. بشكل ملخص، ما حدث في مؤتمر حزب الأصالة والمعاصرة ظاهريا، ليس سوى صدى لكل ما يعتمل وراء الأبواب الموصدة.
الاتفاقات المجهضة وقف المهدي بنسعيد، بينما جماعات وراءه في عراك طويل، وهو يخاطب محمد المعزوز بغضب: “أخبِر حكيم بنشماش بأن كل ما حدث سيؤدي هو ثمنه”. بنسعيد كان يقف بجانب عبداللطيف وهبي، وهو يبدو غير مكترث، فيما المعزوز، وهو المحسوب على تيار “الشرعية” يحاول التخفيف من حالة الغضب التي عليها بنسعيد. لكن الفوضى مستمرة. وفي الواقع، فإن الاضطراب الحاصل لم يكن سوى إحدى النتائج المتوقعة لانتهاك الاتفاقات بين الأطراف داخل حزب الأصالة والمعاصرة. في اجتماعات مصغرة، أجريت طيلة اليومين اللذين سبقا المؤتمر، بين بنشماش وقياديين في تيار “المستقبل”، كان الهدف واحدا: ملء الثغرات التي قد تنسل منها الخلافات إلى المؤتمر. في اجتماع أول ضم قادة تيار “المستقبل” وحدهم، كان يظهر بالنسبة إليهم، تيار “الشرعية” وقد استسلم، لكن بشروط منه هو. لقد جرى نقل رسائل بنشماش بدقة، فهو كان يتحدث بخصوص الكيفية التي يجب أن يشكل بها المكتب السياسي، وظهر وكأنه يعترف بأن منصب أمين عام للحزب لم يعد قابلا للجدل كثيرا. يقول عبدالسلام بوطيب، وكان مرشحا أيضا للمنصب: “لم يكن بنشماش معترضا على احتمال أن يكون وهبي أمينا عاما، لكنه كان يريد مكتبا سياسيا مختلطا”. فاطمة الزهراء المنصوري، رئيسة المجلس الوطني لحزب، وهي من كانت تفحص الخيارات المطروحة في هذا الجانب، لم تر سببا حينها لمعارضة فكرة “مكتب سياسي توافقي”، إذا كان ذلك سوف يؤدي إلى “تنصيب سلس” لوهبي أمينا عاما للحزب. لكن لاحقا، وبالضبط في اليوم الموالي، لم تعد المنصوري تؤمن بهذا الخيار. ولسوف تَنْقضُ أي اتفاق حول تشكيل المكتب السياسي، فهي على ما يبدو، ترفض أن يكون العربي المحرشي ضمن مكتب سياسي هي حريصة على ترتيبه. ولسوف تقول: “إن الأمين العام يجب أن يشكل المكتب السياسي كما يراه هو مناسبا، وبالطريقة التي يقدر بها مصلحته”. وهي عبارة معناها أن خصوم تيار “المستقبل” سيجدون أنفسهم خارج أي مكتب سياسي إن تولى وهبي قيادة الحزب. ولسوف يشعر بنشماش وتياره بالغدر. لاحت فرصة لرد الصاع سريعا. اجتماع ثان، عُقد يوم الأربعاء الفائت، كان هدفه حسم المناقشات وقد تفاقمت، حول منصب رئيس المؤتمر. يملك هذا المنصب صلاحيات كبيرة من شأنها أن تحسم في الخلافات الطارئة، ولقد كانت النتائج دوما تظهر بشكل مسبق بمجرد أن تتضح صورة الرجل الذي سيتسلم هذا المنصب. ولسوف يتمسك بنشماش باسم رجل واحد: عبدالمطلب أعميار. ولم يكن لرجال تيار “المستقبل” أن يقبلوا بذلك؛ فأعميار واحد من القياديين الذين شكلوا آلة جبارة من حول بنشماش طوال عام من الخلافات، ولقد تحدث بسوء عن كثير من شخصيات “المستقبل”. بدلا عنه، كان لهذا التيار اسم بديل: أحمد اخشيشن. الرجل نفسه الذي سعى بنشماش إلى إضعافه في “رسالة الإكواتور”، وقد تضمن سيلا من الانتقادات إليه، ناهيك عن صك اتهام غليظ ضده يشكك في سلامة تدبيره لمجلس جهة مراكش-آسفي. ولسوف يعود بنشماش لاحقا، ويبعث إلى السلطات بمطلب تحقيق في تدبير اخشيشن لمنصبه. لم يكن هناك مخرج على ما ظهر، لكن موقف بنشماش سرعان ما سوف يلين، ولقد قبل باسم اخشيشن. لكن، وما إن غيّرت المنصوري رأيها حول تركيبة المكتب السياسي، حتى غيّر بنشماش موقفه حول منصب رئيس المؤتمر. في صباح يوم الجمعة، قرر بنشماش أن يبعث الروح في مرشحه الأصلي، أي أعميار. وترك كل الاحتمالات واردة. ولتسوية هذا الخلاف، كان يجب أن تحدث مشكلة كبيرة. في نهاية المطاف، وبعدما توقفت أعمال المؤتمر بسبب احتلال منصة الخطابة، والعراك بين الأطراف، خلص الطرفان إلى حل فريد يشكل سابقة: فبدل رئيس واحد للمؤتمر، عينا رئيسين: أعميار ذاته، وشاب آخر موال لتيار “المستقبل” لم يُسمع عنه أي شيء قبل هذا المؤتمر. الثورة المضادة ولئن كانت تبدو هذه التفاصيل ثانوية، فإن انتهاك اتفاق ثالث جرى في الكواليس سيكون ذي صلة مباشرة بما سيحدث لاحقا من اضطراب. كان بنشماش مصمما على ألا يكون لرئيس اللجنة التحضيرية، غريمه الرئيس، سمير كودار، أي خطاب يُلقى في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر. ولسوف يعمل على تغيير البرنامج الأولي، كما هو منشور في الموقع الرسمي للحزب، وكان يتضمن خطابا لكودار، بأن يحذف اسمه من البرنامج الموزع على المؤتمرين. وبطبيعة الحال، لم يقبل تيار “المستقبل” ذلك. اجتماع عقد بين الأطراف، ولم يحضره كودار، خلص إلى صيغة توفيقية: أن يسمح لكودار بإلقاء خطاب على ألا تتجاوز مدته بضع دقائق، كما ستكون مضامينه محصورة على تلخيص عمل اللجنة التحضيرية، وتوجيه الشكر إلى جميع الأطراف “بمن فيهم الأمين العام للحزب نفسه”. كما يؤكد وهبي هذه المضامين. ولقد كانت آمال تيار “المستقبل” في أن يكون الخطاب الافتتاحي لبنشماش “مسايرا لهذا الاتجاه، حيث تكون نبرته أقل حدة، ولا يتضمن أي شيء من شأنه أن يعقد الأوضاع أكثر”. لكن حدث عكس ذلك تماما، فقد تضمن خطاب بنشماش الممتد على 22 دقيقة، كل الانتقادات إلى تيار “المستقبل”، وعلى الخصوص إلى مرشحه، عبداللطيف وهبي. وكان جمع موال لبنشماش، يتخذ مكانه بالقرب من منصة الخطاب، حيث القادة جميعا، يقابلون كل فقرة من الخطاب بوابل من التصفيق، لاسيما عندما كان يتعرض لأعمال خصومه بالنقد. لكن، ما هو أشد سيحدث لاحقا: إذ بمجرد ما اعتلى كودار منصة الخطابة، حتى تعالى صياح الاستهجان من الجمع نفسه، الذي كان يقابل خطاب بنشماش بالتصفيق، ولسوف ينتشر الصفير في الأرجاء. كان كودار يحاول أن يلقي كلمته رغم ذلك، لكنه لم ينجح، ولسوف يتقدم الجمع الموجود بالقرب من المنصة، نحو كودار، وحينها، كان كل شيء قد انفلت. أسامة الخليفي كان من بين المتقدمين إلى المنصة، وهو لم يكن مسجلا في لوائح المنخرطين لعام 2017، وهو الشرط الرئيس كي يصبح عضو ما مؤتمرا، ورُفض طلب للانتداب قدمه في مكناس لهذا السبب. بيد أن اسم الخليفي سيقفز إلى قائمة المؤتمرين، حيث سيضعه بنشماش نفسه ضمن لائحة “كوطا” خُصصت له. ويتهم قادة تيار “المستقبل” بنشماش بتزكية أفراد في المؤتمر، يفتقدون الشروط، لهدف إحداث الاضطراب. لكن في حقيقة الأمر، لم يكن الحادث من عمل شخص واحد على كل حال. والخليفي نفسه تلقى ضربة على رأسه في مدخل المؤتمر، وسقط أرضا مضرجا في دمائه، ولسوف ينقل إلى المستشفى ويعود لاحقا ليشارك في الجلسة الافتتاحية. وفي الواقع، كان هناك القليلون فحسب من المتفائلين بألا يحدث اضطراب في ذلك اليوم. ولقد تزايد عدد المنزعجين من ظروف الإيواء، حتى إن كثيرا من المشاركين في توقيف خطاب كودار كان مصدر الاحتجاج بالنسبة إليهم هو الطريقة المشينة التي عوملوا بها. لكن كودار كان هدفا لكثير من الانتقادات ذلك الصباح. لقد فوجئ المئات من المنتدبين للمؤتمرين بتبخر أسمائهم من القوائم على البوابات. ولقد شطب على 57 اسما بالكامل من قائمة إقليمفاس، وهي منسقية محلية تعارض تيار “المستقبل” على العموم. ولسوف يظهر لكثير من المنسقين الإقليميين الذين ليس بينهم وبين “المستقبل” أي مشاعر ود، بأن اللجنة التحضيرية قد حذفت جماعة من المنتدبين من قوائمهم. وما هو أسوأ كان أن رئيس اللجنة التحضيرية لم يسلم اللائحة الرسمية للمؤتمرين، وكان على حراس الأمن في البوابات عبء مواجهة المنتدبين المحتجين على القوائم الإلكترونية، التي تركت لأعضاء عاجزين ودون أي سلطة في خيمات نصبت في مدخل مكان المؤتمر. وجميع أولئك الذين شعروا بالمهانة في بوابة المؤتمر، وجدوا الفرصة سانحة لقول “ارحل” لكودار بمجرد أن شرع في تلاوة كلمته. كان إبراهيم الجماني يصيح باستهجان أيضا، وكان يلوح لعدد آخر من المؤتمرين بأن يزيدوا في الاحتجاج. الجماني نفسه كان قد صفع بنشماش فيما مضى، قبل أن ينهيا ذلك بمصالحة، لكن الجماني غاضب هذه المرة بسبب الطريقة التي عولجت بها قوائم المنتدبين من جهة الرباط، حيث معقِله. كان كودار يعتقد بأن الاضطراب “مدبر، وغير ذي صلة بترتيبات الإيواء”، كما قال. ولسوف تلقي فاطمة الزهراء المنصوري، وهي رئيسة المجلس الوطني للحزب، خطابا مرتجلا، تتعهد ب”تسوية أي اختلالات مرتبطة بالإيواء”، لكنها قوطعت، وجرى شتمها من لدن أعضاء غاضبين. ولاحقا، أوتي بشخص، وشرع في تلاوة آيات من القرآن، وبعض الأناشيد الدينية، في مسعى إلى تهدئة النفوس. لكن القادة لديهم طريقة أكثر عملية لتسوية الأزمات. في ركن جانبي، حدث اجتماع، وكان أطرافه أعضاء المكتب السياسي للحزب. ولسوف يتمسك تيار “المستقبل” بأن يلقي كودار خطابه، على أن يشرع بنشماش نفسه قبل ذلك، في توضيح موقفه بشكل علني. وفي الواقع، لم يحدث مثل هذا التوافق دون ضغط أو تهديد. ولقد وُضع خيار جلب الشرطة على طاولة المناقشات. كان لخطاب بنشماش تأثير بالغ في التنفيس، ولدقائق معدودة، وبّخ بنشماش أنصاره كما باقي المؤتمرين بطريقة عنيفة وهو ينتقد الطريقة التي جرى بها الاضطراب. “سيضحك علينا الأعداء والشمايت”، كما قال. وكأنه مفعول مهدئ، لم يتزحزح أحد لاحقا من كرسيه، بينما كان كودار يلقي خطابه. عندما أنهاه، قال: “ليس هناك مجال للاستسلام”. تسويات الأزمة ولئن كانت الاتفاقات الموؤودة قد أدت إلى كل ذلك الاضطراب، فإن الأطراف وقد تفاقمت الخلافات بينها أكثر، سوف تلجأ إلى خطط أكثر شفافية. تيار “الشرعية” وأنصاره سيقررون مواجهة مشروع القانون الأساسي للحزب. وكان الهدف هو إسقاط مادة تنص على أن ينتخب الأمين العام من لدن المجلس الوطني. بدلا من ذلك، تريد “الشرعية” أن يكون الانتخاب مباشرا من لدن المؤتمر وبشكل سري بواسطة صناديق شفافة، لم يؤت بها على كل حال إلى مكان المؤتمر حتى السبت. ولقد ظهر بأن هذا التيار على الخصوص، لديه تقدير عال لقوته العددية في المؤتمر، ولسوف ينتقد خمسة مرشحين كانوا جميعا موالين لبنشماش، “خطة إنزال الغرباء”، من لدن تيار “المستقبل” لتعديل ميزان العدد في المؤتمر، في حال نجح تعديل القانون الأساسي، وصدر بيان مشترك بينهم بهذا الخصوص. بيد أن تيار “المستقبل” عالج الاتهامات بعمل شفاف: إعادة حساب المؤتمرين واحدا واحدا، ولسوف يظهر بأن الاتهامات المرتبطة بالإنزال لم تكن حقيقية. بالنسبة إلى تيار “الشرعية”، فإن أي إقرار بمشروع القانون الأساسي كما هو معروض، معناه أن التصويت في المجلس الوطني سيُفضي إلى تنصيب وهبي أمينا عاما. ولقد كان ذلك بالنسبة إليهم كابوسا، ولسوف يهددون بمغادرة الحزب إن تحقق. بيد أن كل هذه التهديدات لا تنطوي على أي جدية في حزب مثل الأصالة والمعاصرة. ولقد قرر أربعة مرشحين دفعة واحدة، التخلي عن السباق. محمد الشيخ بيد الله والمكي زيزي، ثم عبدالسلام بوطيب والكفاية التائب، كانوا جميعا، يظهرون صلابة منقطة النظير في مواجهة أي من الإغراءات التي قدمت إليهم كي يفسحوا الطريق لوهبي، ولسوف يصدرون بيانا مشتركا، ومعهم سمير بلفقيه –وهو مرشح أيضا- ضد الأشخاص الذين يعملون لفائدة وهبي. وكانت التهمة أن “المؤتمر يشهد تلاعبات خطيرة، وإنزالا لغرباء”. وحدث ذلك في الساعة الخامسة من يوم السبت، لكن ذلك الموقف سرعان ما سوف يتغير في الساعة التاسعة ليلا. لقد أصبح المنافسون لوهبي أكثر اطمئنانا إليه، ولسوف يقررون التخلي عن السباق ودعمه. “لقد رن الهاتف”، كما قال قيادي في الحزب، وترك أربعة مرشحين قواعدهم فجأة دون أي توجيه. وبقي بلفقيه لوحده يحاول أن يجعل من موقفه بعدم الاستسلام بطولة. لكن ليست هناك بطولات في حزب الأصالة والمعاصرة. ماذا حدث بالضبط؟ كان هناك اجتماع بين وهبي والمرشحين الأربعة تلك الليلة، حضره بنشماش، وأعضاء آخرين بينهم هشام الصغير، وهو مرشح تخلى عن ترشحيه مبكرا ذلك اليوم، وعقد صفقته، وقد لعب دورا في دفع زيزي وبوطيب إلى التخلي عن السباق أيضا. لم تكن هناك مفاوضات، واكتفى وهبي بالقول إن تركيبة المكتب السياسي سيحسم فيها في وقت لاحق. ولسوف يعرض لمعايير عدة، ثم سيقتنع الجميع بإرجاء تشكيل المكتب السياسي إلى يوم آخر بعد المؤتمر. لم يعد هناك مجال بعد الآن لأي سيناريوهات إضافية، فقد حسم الأمر، ولسوف يُرجئ رئيسا المؤتمر عمليات المصادقة على القوانين الداخلية للحزب لليوم الموالي على ما هي عليه. ولو لم يكن للناس مراعاة لبعض القواعد، لأعلنوا وهبي أمينا عاما تلك الليلة. لكن لِم العجلة؟ في حزب الأصالة والمعاصرة، لا يحتاج الناس سوى إلى الشعور بأن أعمالهم قد جرى التصديق عليها من فوق. ولقد سرت الشائعات تلك الليلة بأن لا حاجة إلى مزيد من الخلافات، ولسوف تتوقف كل الاعتراضات بغتة. وليس غريبا أن يتلقى وهبي رسائل التهاني ليلة السبت نفسها، ولقد رد عليها بحبور. ماذا تبقى إذن؟ تشكيل المكتب السياسي لم يعد سوى نوع من الأعمال التقنية، فقد جرى التفاوض على كل شيء دون أن يشعر أحد- سوى القليلين- بذلك.