لتجاوز الإشكالات التي تعانيها السياسة الجنائية بالمغرب، دعا محمد بنعبدالقادر، وزير العدل، إلى نهج سياسة جنائية “متكاملة وناجعة”، تعتمد على مقاربة زجرية، وأيضا حقوقية. واعتبر أن هذه السياسة الجديدة، يجب أن تعمل على “تنزيل مضامين الدستور الجديد للمملكة لسنة 2011″، الذي نص على مجموعة من الحقوق والحريات ووضع آليات لحمايتها وضمان ممارستها، و”تعزيز العديد من ضوابط وقواعد سير العدالة”. كما دعا إلى ملاءمة المنظومة القانونية الوطنية مع المواثيق الدولية وتوصيات وملاحظات هيئات منظمة الأممالمتحدة ذات الصلة بمجال حقوق الإنسان، ومواجهة ظاهرة الجريمة التي أصبحت تتطور بشكل ملحوظ كما وكيفا، وتتخذ أبعادا عابرة للحدود الوطنية، في إطار ما يسمى ب”الجريمة المنظمة”. ومن جهة أخرى، دعا الوزير إلى سد ثغرات الممارسة القضائية، مشددا خلال عرض قدمه أمام مجلس الحكومة، أول أمس الخميس 26 دجنبر 2019 على أن “سد الثغرات التي أفرزتها الممارسة القضائية العملية أصبحت تتطلب تدخلا تشريعيا لإصلاحها أو تلافي عيوبها”. وفي السياق عينِه، دعا إلى سياسة جنائية تستند إلى التوصيات الصادرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة، خاصة على مستوى تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، واعتماد التوصيات الصادرة عن “الآليات الأممية لحقوق الإنسان وبعض الآليات الدولية في مجال مكافحة الجريمة، من قبيل: توصيات لجنة الاختفاء القسري، لجنة مناهضة التعذيب، لجنة حقوق الطفل، لجنة الاعتقال التعسفي، مجموعة العمل المالي. وجاء عرض الوزير في سياق الدور المنوط بوزارة العدل، في مجال رسم معالم وتوجهات السياسة الجنائية، وكذا دورها في التنسيق بين السياسة الجنائية وباقي السياسات العمومية للدولة. هذا، علما أن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، هو المختص بتنفيذ السياسة الجنائية، في حين يختص البرلمان بصلاحية المصادقة على القوانين وتقييم السياسة الجنائية. واعتبر وزير العدل، أن السياسة الجنائية الحالية، تعاني عدة من “مشاكل وأزمات”، تتمثل أولا، في تقادم مجموعة القانون الجنائي التي تعود لسنة 1962، إضافة إلى العديد من النصوص التشريعية الزجرية “التي ترجع إلى حقبة الحماية”. كما أن قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 “بات يتطلب المراجعة” ليستجيب للتطورات، “وليجد حلولا للعديد من الإشكالات التي تعترض السير الأمثل للعدالة الجنائية”. ثانيا، تضخم في عدد النصوص الزجرية الخاصة في الساحة القانونية المغربية، إلى درجة أصبح يتعذر معها استيعابها من طرف الممارسين، “في إطار مقاربة غير سليمة تقوم على المقاربة الزجرية كحل لجميع المخاطر المطروحة”. ثالثا، معاناة القضاء الجنائي المغربي من “تضخم عدد القضايا”، إذ يتراوح عددها سنويا ما بين مليون ومليون ونصف قضية سنويا، من أصل ثلاثة مليون قضية تسجلها المحاكم، ما بين قضايا زجرية ومدنية وتجارية وإدارية، “خاصة أن الثلثين من القضايا الزجرية يعتبر قضايا بسيطة يمكن أن تجد لها حلولا خارج نظام العدالة الجنائية في إطار مساطر بديلة”. رابعا، ارتفاع نسب حالة العود إلى الجريمة (خاصة جرائم السرقة والمخدرات والعنف)، وعدم التوفر على آلية للضبط الدقيق لهذه الظاهرة. خامسا، مشكل الاعتقال الاحتياطي الذي يتمثل في ارتفاع نسبة المعتقلين الاحتياطيين، وهي نسبة لم تقل منذ سنوات عن 40% من مجموع الساكنة السجنية. سادسا، مشكل العقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة. فمجموع عدد المعتقلين الصادرة في حقهم عقوبات سالبة للحرية بسنتين وأقل إلى حدود نهاية شهر أبريل 2018 بلغ 40286 معتقلا، من أصل 82361 من عدد الساكنة السجنية، أي بنسبة 48٬91 % موزعة بين 39443 من الذكور و 843 من الإناث. هذا الوضع العقابي، القائم، “يسهم بشكل كبير في اكتظاظ المؤسسات السجنية، في ظل غياب بدائل حقيقية للعقوبات المذكورة”، وما يترتب عن ذلك من تأثير سلبي على ظروف الاعتقال وأنسنته وبرامج التأهيل وإعادة الإدماج ووظيفة العقوبة المعاصرة، خاصة أن “العقوبات القصيرة لا تحقق في أغلب الأحوال الردع المطلوب”. ويأتي عرض الوزير ومناقشته من طرف أعضاء الحكومة، في سياق التمهيد لتقديم مجموعة من النصوص القانونية المتعلقة، سواء في المسطرة الجنائية، أو القانون الجنائي، والتنظيم القضائي والتفتيش القضائي، وغيرها. ويبدو أن الرسالة الأساسية من هذا العرض، هي التنبيه إلى أن التحولات التي عرفها المغرب سواء على مستوى الدستور والمنظومة الدولية وتطور الجريمة بات يستدعي مراجعة شاملة السياسة الجنائية، وأيضا، مراجعة مفهوم “النظام العام”. ويبدو أن هذا الورش قد أطلق منذ انطلاق الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، لكن تنفيذه تواجهه عقبات، ظهرت أساسا في حالة “البلوكاج”، الذي يعرفه مشروع القانون الجنائي المعروض أمام البرلمان منذ نحو أربع سنوات. وحسب مصدر مطلع، فإن السياسة الجنائية “بقدر ما يجب أن تتجه لحماية النظام العام، فإنها، أيضا، تتجه لتحمي الحريات”، فالدستور يجرم الاختفاء القسري، والتعذيب والاعتقال التعسفي، ويحمي الحريات، “ويجب أن يكون ذلك مترجما على مستوى السياسة الجنائية”. وكشف مصدر مقرب من الحكومة أن مجموعة من النصوص المتعلقة بالسياسة الجنائية ستتعرض قريبا على مجلس الحكومة، تتعلق بالمسطرة الجنائية والقانون الجنائي، وغيرها.