يحضر “جوكر” في التأويل السينمائي الجديد لشخصيته كما يتصوّر بدايات تشكلها المخرج الأمريكي تود فيليبس بملامح مألوفة. مهرّج اسمه “آرثر فليك” يصبغ وجهه حين يعملمهرجا ويغسله قبل أن يعود إلى البيت. ثم يفقد الاتزان في نقطة ما. تبدو هذه المعاناة مألوفة. ذبذبات الألم تعبر جدار السينما إلى نقطة ما من بقايا حزن وحسرة تتملك المرء على من فاتهم الركب. مفهوم “فاتهم الركب” هذا الذي لا مكان له في الثقافة الأمريكية التي تجتاح العالم. فالقناعة الراسخة تقول أن تعمل أو تندحر (Do or die). ترى أنه لا يمكن أن يكون إنسان آخر غيرك أنت مسؤولا عن شقائك. حكمة عظيمة بطعم مرير. يمكن وضع “جوكر” داخل مجموعة من الأُطر التفسيرية. سأتتبع هنا إطار التحسيس بالمعاناة النفسية. ولعل المرض النفسي ودور المجتمع في احتضان صاحبه أو دفعه لحافة الجنون هو الفكرة الكبرى التي تجري في ظلها أحداث الفيلم الذي يحكي قصة صناعة قاتل. رجل يعيش العزلة والتهميش ويعاني مع البطالة والمرض العقلي، يبقى على هامش المجتمع وحيدا مع عقاقيره وأمه العجوز وحياته القاتمة إلى أن يرتكب جريمة فيلاحظَ العالم وجوده، وبشكل أهم، فيلاحظ هو أن العالم تنبّه إلى وجوده. يسلك على ضوء هذه“الملاحظة” طريقا جديدا في انتزاع اعتراف المجتمع على شاكلة “الجريمة الاجتماعية” التي تعني، في بعض الأدبيات، الفعل الذي تجرّمه الطبقات الحاكمة فيما تدعمه الطبقات المقهورة، وقد تجد تفسيرها في السلوكيات الإجرامية المقررة في علم الإجرام. وقبل أن أتقاسم مع القراء بلاغة التعاطف مع النفوس المجروحة كما تتبلور في حبكة الفيلم وكما أراها، لا بد من تعقيب على من انخرطوا في التنديد بالفيلم –في الغالب قبل أن يشاهدوه – تحت يافطة “التشجيع على العنف“. وتعقيبي من ثلاث نقاط مترابطة. أولا، الفيلم عمل من أعمال الخيال والجوكر شخصية متخيلة. وإن أراد المجتمع تبنيها فهذه ليست مشكلة الفيلم، وإلا سنقبل غدا باعتقال مخرجين وروائيين وكتاب سيناريو بتهمةالتشجيع على الفساد أو القتل أو العنف أو الثورة ! وأذكّر بقصة صغيرة هنا يختلط فيها الخيالي بالواقعي، لكن بشكل جميل ومبدع، وهي حين حلّ أبطال سلسلة “لاكازا دي بابيل” الإسبانية بباريس لترويج الجزء الثالث منها. نُظم الحدث الترويجي الخاص بالجمهور الفرنسي بدار سك العملة الفرنسية العريقة Monnaie de Paris. أين الجمال هنا؟ الجمال هو حين تعرف أن هذا الجزء من السلسلة يحكي بالذات قصة عصابة تقرر سرقة دار لسك العملة! والسلسلة تقدم السرقة على أنها “مقاومة” “وتمرد” في وجه الدولة الفاسدة والنخبالتي تنهب باسم القانون. ويحضر الجمهور الفرنسي لاستقبال أبطال سلسلته مرتديا قناع “دالي” وهو يردد ” la resistencia”.. ثانيا، مشاهد العنف في “جوكر” ليست هدفا في ذاتها، ولا هي الغالبة (خمسة مشاهد تقريبا). لا تركز الكاميرا على أفعال العنف في ذاتها، بل تعبُرها بسرعة فائقة على خلاف مايحصل، مثلا، في سلسلة أفلام “SAW” أو في فيلم “The Hitcher ” وما شاكلهما، والتي تحضر لقطات التمزيق والقتل باعتبارها هدفا. وهنا الهيأة البريطانية لتصنيف الأفلام (BBFC) تصنف “جوكر” في خانة “ممنوع على الأقل من 15 عاما“، فيما تصنف الفيلمين المذكورين في المثال أعلاه في خانة “ممنوع على الأقل من 18″ عاما. ثالثا، هناك شرط الالتزام بالجنس السينمائي. أي الانتماء إلى عالم المتخيل الفيلمي والالتزام بشرط الجنس الفني بما يعنيه ، مثلا، من عدم كتابة بيان سياسي وتمريره على أنه فيلمأو رواية، أو تقديم رواية على أنها واقعة. وهذا الشرط حاضر في “جوكر” بقوة الممثلين وقوة السيناريو والإخراج والفكرة وحكم النقاد (لا اختلاف على اعتبار جوكر من جنسالسينما)، وأيضا بقوة الجمهور الذي يستهلكه “سينمائيا“، وليس سياسيا أو إجراميا أو ثوريا. والآن، لنعد إلى الفكرة النفسية. كاميرا تود فيليبس، في تقديري، لا تعبأ بالعنف ولا الدماء بقدر ما تُخاطب في المشاهد ملكة التقمّص العاطفي ما وجد إليها سبيلا. ما ظلت حيّة بداخله. السرد السينمائي يبقى مركزا على تقلّبات “جوكر” وصراعاته النفسية. يقوم بدور العدسة المكبرة لمعاناة الفرد من ضغوط المجتمع وآلته الماحقة، خاصة في مجتمع أفرط فياعتناق وتقديس قيم النجاح والثراء والشهرة والجمال وطلب الكمال بشكل مجنون. الفيلم يحرّك قناعاتك ويطلب منك أن تشفق وترفق بالآخر. لكن دون أن تُنزّه أفعال هذا الآخر عن الشك أيضا. يضعك في موقف غريب من التعاطف والاتهام والثقة والشك. سأقدم مثالا هنا لهذا الكلام. في الفيلم، يستفزك جوكر بتلك الضحكات السافرة في وجهك. هو يضحك في وجه شخصية أخرى، وأنت تشعر أنه يضحك في وجهك. يضحك بلا توقف، بلاسبب، بلا مبرّر. يضحك ضحكته الشريرة تلك. لكن شيئا ما غريب يعتري تلك الضحكة هذه المرّة. وكأن صاحبها يحاول وقف الاستفزاز، يقاوم نفسه. يفعل ذلك مرّة في حافلة. ينفجر بالضحك في وجه امرأة تجلس أمامه، فترمقه بعين شزرة، فيضحك بالرغم منه. “ما المضحك؟“، تسألُ المرأة بغضب. يسحب ورقة من جيبه ويمدّها إليها. على الورقة كُتب “أعتذر عنضحكي، أعاني من مرض، الرجاء النظر إلى ظهر الورقة” وفي ظهرها تفصيل أكبر “إنها حالة مرضية تسبب ضحكا مفاجئا ولا إراديا، وقد تصيب أشخاصا يعانون من إصابات…دماغية أو اضطرابات عصبية“. بعد هذه الواقعة، حين يضحك آرثر مرّة أخرى، تشعر أنه ضحك كالبكاء. تشفق عليه من كم الضرب واللكم الذي ينهال عليه لسبب يتعدّاه. وفي مشهد آخر، يقطع ضحكته بسهولة بالغة، وكأن كل ما فات كان ادعاء.. ولكنّه يبقى ضحك كالبكاء.