أعادت قضية المكالمة الهاتفية بين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ونظيره الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، أو ما باتت توصف ب»أوكرانيا غيت»، الجدل بشأن المصدّات التي تحمي الديمقراطية من الداخل. وفي خضم الجدل الواسع الذي تشهده أميركا حاليا حول ما إذا كان الرئيس ترامب قد طلب فعلا تدخل رئيس بلد أجنبي في انتخابات 2020 الرئاسية أم لا، يبرز نقاشٌ آخر لا يقل حيوية بشأن مدى قدرة الديمقراطية على حماية نفسها من الداخل. وأهم ما كشفت لنا عنه هذه القضية حتى الآن وجود مصدّات تعمل من داخل الماكينة الديمقراطية لحمايتها ضد نفسها من الداخل. والجديد القديم من بين هذه المصدّات هو جهاز المخابرات الذي ورث سمعة سيئة، ظلت تلاحقه في كل البلدان، بما فيها التي توصف بأنها ديمقراطية، فبطل فضيحة «أوكرانيا غيت» المجهول هو مُخبر في جهاز المخابرات المركزية الأميركية، يُعتقد، حسب وسائل إعلام أميركية، أنه هو صاحب الشكوى التي فجّرت القضية، وأثارت هذا النقاش العميق بشأن المخاطر التي تتهدّد الديمقراطية، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن وجود آليات رقابية ومؤسسات رسمية تعمل على حماية الديمقراطية من نفسها ومن الداخل، وفي مقدمة هذه الآليات جهاز المخابرات الذي يعتبر حتى الآن صاحب الدور الرئيسي في إثارة هذا النقاش الحيوي، على الرغم من كل الأجواء السياسية المتوترة التي يجري فيها، فمرة أخرى، تؤكد المخابرات أنها واحدةٌ من المصدّات القوية، إلى جانب القضاء والبرلمان والإعلام والرأي العام، التي يمكن الاعتماد عليها، للتبليغ عن الخطر الذي يمكن أن يتهدّد الديمقراطية من الداخل. وليست هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها جهاز المخابرات المركزية الأميركية بهذا الدور الحيوي في حماية ديمقراطية بلاده من تغوّل سلطة واحدة، وفي هذه الحالة، سلطة الرئيس التنفيذية، على باقي السلطات. ففي سبعينيات القرن الماضي، أثيرت قضية مشابهة، كشفت أن الرئيس ليندون جونسون كذب على الشعب الأميركي بخصوص حرب فيتنام المدمرة. وكان بطل تلك القضية التي عرفت بفضيحة «وثائق البنتاغون» عميل مخابرات سرّب جزءا كبيرا من التقرير الذي حاول الرئيس إخفاءه عن الكونغرس وعن الرأي العام الأميركي بخصوص تصرفات إدارته في تلك الحرب. وساهمت تلك القضية آنذاك في إبراز دور المصدّات التي تحمي الديمقراطية من الداخل، وفي مقدمتها الإعلام الذي نشر تلك التقارير، متحدّيا تهديد السلطة التنفيذية، والقضاء الذي أصدر حكما تاريخيا أعطى للصحافة سلطة التحقيق وحق النشر في كل القضايا الحسّاسة التي تهم الرأي العام. اليوم تعلمنا هذه القضية الجديدة درسا آخر بشأن عمل الآليات الرقابية والمؤسسات الرسمية في حماية الديمقراطية من نفسها، والدور الذي لعبه مخبر مجهول في التبليغ عن الخطر الذي كان يتهدّد عمل الآلة الديمقراطية من الداخل، يعيد الاعتبار إلى دور جهاز المخابرات في حماية الديمقراطية، ويسلط الضوء على الدور البطولي للأشخاص الذين يعملون بصدق داخله، من أجل مصلحة وطنهم وحماية ديمقراطية بلدانهم، فقد أكدت هذه القضية أن دور المخابرات، عندما تكون وطنية وتشتغل داخل نظام ديمقراطي، ليس فقط هو التجسّس على الناس وإحصاء أنفاسهم، وإنما حماية الديمقراطية من كل شطط في استعمال السلطة، حتى لو كان مصدره رئيس الجهاز التنفيذي الذي يتبع له جهاز المخابرات نفسه. وتعلّمنا هذه القضية أن لا أحد فوق المحاسبة، بما في ذلك الرئيس الذي يواجه حاليا إجراءات العزل التي قد تقوده إلى الوقوف أمام الكونغرس لمساءلته، وربما ينتهي الأمر بعزله حسب مسار التطورات التي تشهدها هذه القضية التي تكبر كل يوم، مثل كرة ثلج كبيرة تتدحرج من أعلى قمة الجبل الذي بدأ يرتجّ من الداخل. ومن تابع استجواب رئيس المخابرات الأميركية أمام الكونغرس، زهاء خمس ساعات، سيشفق على رئيس أكبر جهاز مخابرات في العالم، وهو يحاسب على الهواء مباشرة، يتلعثم في اختيار كلماته. وفي المقابل، سينبهر بدور البرلمانيين الأميركيين، وهم يحاولون وضع كلماتهم المنتقاة بعناية على شفتي المستجوب، حتى يسمعه الرأي العام الأميركي، ينطق بها فيما يشبه الاعتراف الطوعي أمام مستجوبيه. لقد أظهرت هذه القضية أن الرئيس وإدارته، وعلى الرغم من أنه يوجد على رأس المؤسسة التنفيذية التي تشرف على أقوى وأكبر جهاز مخابرات في العالم، تخضع له عدة أجهزة أمنية، إلا أنها ليست كلها مسيّرة لخدمته، وإنما هي أيضا جزءٌ من أدوات الرقابة التي تراقب عمله من الداخل. وفي وقتٍ تشهد فيه الديمقراطيات الغربية تآكلا كبيرا حتى في معاقلها التقليدية، يبعث هذا التمرين الديمقراطي الأميركي بارقة أمل في الديمقراطية الغربية، ويؤكد الثقة في قوة الضوابط والمؤسسات الديمقراطية وصلابتها، وخصوصا دور آليات حماية الديمقراطية من نفسها ومن الداخل، وفي مقدمة هذه الآليات البرلمان والإعلام والقضاء والمخابرات. لقد شكل وصول رئيس شعبوي عنصري إلى زعامة الولاياتالمتحدة صدمة لكثيرين رأوا فيه بداية انحدار نحو نهاية الديمقراطية الأميركية، بما أن الشعبوية هي الأرض الخصبة للديكتاتورية، وترامب يمثل اليوم أحد أبرز نماذج الشعبوية التي تحمل معها كثيرا من أسباب القلق بشأن مستقبل الديمقراطية الأميركية، والغربية بصفة عامة. ولكن هذه القضية جاءت في وقت مناسب، مثل ناقوس خطر، لتذكّر بأن لدى الديمقراطية الأميركية آليات وقائية كثيرة تعمل على صيانتها من التآكل من الداخل، وأبانت عن كيفية اشتغال تلك الأدوات الرقابية والمؤسسات الرسمية في حماية البناء الديمقراطي من تغوّل سلطاته، ودورها في إعادة توزيع توازن السلطات السياسية في اتجاهٍ أكثر ديمقراطية. والجدل الذي يجري اليوم في أميركا، على هامش هذه القضية، بشأن مطبات النظام الديمقراطي سيكون له، لا محالة، تأثير كبير على شكل الديمقراطية الأميركية ونوعيتها خلال العقد المقبل، وهو ما ستحدّده، بشكل أساسي، كيفية تفاعل الأميركيين مع مؤسساتهم المدنيّة، وكيفية تفاعل تلك المؤسسات معهم، فإصلاح الديمقراطية الأميركية نفسها من الداخل هو الذي سيؤهلها لتبقى زعيمة العالم الحر، في زمنٍ تشهد فيه الديمقراطية في العالم تراجعا كبيرا أمام عودة الدكتاتوريات السلطوية والمنتخبة، وصعود الأنظمة الشعبوية والعنصرية. الصورة التي تعطيها لنا اليوم الديمقراطية الأميركية عن نفسها هي أنها أقل كآبة مما كنا نتصوّره عنها منذ وصل رئيس أهوج ومتهوّر، لا يهتم بصحة مؤسسات بلاده الديمقراطية، يهاجم باستمرار الصحافة، ويتدخل بشكل فج في القضاء، ويهاجم خصومه داخل الكونغرس بصفاقةٍ كبيرة، ويبعث رسائل قلق كثيرة يشأن مستقبل الديمقراطية في العالم، فالديمقراطية الأميركية ما زالت بخير، وماكينتها ما زالت تعمل على الرغم من عيوبٍ كثيرة في نظامها الداخلي التي تتسبب لها في أحيانٍ كثيرة بأضرار مروّعة، تقوّض كيانها من الداخل، وتهز صورتها من الخارج. عن (العربي الجديد)