ثلاثة أيام بين «استقالة» إلياس العماري من جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، وبين خروج حزب التقدم والاشتراكية من الحكومة. ما أجده جامعا بين «الاستقالة» والخروج، على ما بينهما من فروق، هو أنهما مؤشران صارخان على نهاية السياسة داخل المؤسسات، سواء بالطريقة التي مارسها بها حزب مستقل عن السلطة، مثل التقدم والاشتراكية، أو حتى التي مارسها بها إلياس العماري، باعتباره أقوى رجل في «حزب السلطة». كيف ذلك؟ ما ميز استقالة إلياس من رئاسة حزب الأصالة والمعاصرة قبل سنتين، ثم «استقالته»، الآن، من رئاسة الجهة، هو أن الاستقالتين معا جاءتا بعدما استشعر الرجل أنه أصبح موضع مساءلة من لدن أعضاء في المكتب السياسي للبام هو من جاء بهم وجعل منهم زعماء معروفين وأثرياء محميين من القانون.. أو بعدما وجد نفسه يُحاسَب من لدن مستشارين جماعيين صغارٍ، هو الذي اعتاد أن يتصل بمسؤولين سامين ويصدر أوامره التي لا تناقش. إن استقالة إلياس هي احتجاج على اختلال قواعد اللعبة الإدارية-السياسية التي تعاقد على أساسها مع من جاؤوا به وأحاطوه بخُشب مسندة أصبح لها، فجأة، رأي ولسان وعينان وشفتان. لقد كانت استقالة إلياس العماري صرخة على اختلال قواعد اللعب، وكأني به يقول لأصدقائه الكبار في السلطة: هل وهبي والمنصوري واخشيشن.. ومعهم مستشارو الجهة.. «كانوا عارفين راسهوم علاش جايين؟». أما خروج التقدم والاشتراكية من حكومة سعد الدين العثماني، فهو احتجاج على رئيس حكومة مصاب بداء البرود السياسي، وأمين عام حزب لم يقدر الحجم السياسي، وليس الانتخابي، لحزب يساري أجَّل تناقضاته الإيديولوجية مع العدالة والتنمية ليؤسس معه تحالف الأحزاب المستقلة عن السلطة، وقد كان هذا النموذج ناجحا، بالنظر إلى مساحة اللعب المسموح بها لحزبين في الحكومة، عندما كان عبد الإله بنكيران يقول إن علاقته بالدولة قائمة على «اللامواجهة» و«اللاانبطاح»، وعندما كان، وهو رئيس حكومة، يقسم، بوعي حاذق، المشهد السياسي والمؤسسي في المغرب إلى حكم وحكومة وتحكم، وعندما كان يفرز الملك من محيطه، فيقدس الأول ويرمِّد الثاني، بشكل لم يسبقه إليه أي وزير أول أو رئيس حكومة في تاريخ المغرب. هذا كله، طبعا، انتهى مع سعد الدين العثماني الذي أصبح رئيس حكومة بلا طعم ولا رائحة، ينفذ الأوامر وينتظر الساعة. إن استقالة إلياس العماري من الجهة احتجاجا على اختلال قواعد «التحكم»، وخروج حزب التقدم والاشتراكية من الحكومة احتجاجا على اختلال قواعد «الاستقلالية»، هما مؤشران على العودة إلى مناخ أسوأ بكثير من ذلك الذي ساد قبل فبراير 2011، حيث كان خطاب كل أحزاب الحركة الوطنية، مضاف إليها العدالة والتنمية، يعبر عن رفض التوجهات السياسية للدولة، ومنها الدفع بحزب الأصالة والمعاصرة ليكون مثل الحزب الحاكم في تونس بنعلي. من منا ينسى الوصف الذي أطلقه أمين عام التقدم والاشتراكية السابق على مؤسسي حزب الأصالة والمعاصرة («الملاكيط»)؟ وقد بقي الحزب وفيا لهذا الموقف حتى وهو في الحكومة، حين تحدث نبيل بنعبد لله عن أن البام مازال على علاقة بمؤسسه فؤاد عالي الهمة حتى بعدما أصبح هذا الأخير مستشارا ملكيا، ما كلفه غضبة غير مسبوقة من الديوان الملكي، ثم إبعادا عن الوزارة. وهل ننسى كيف خرج بنعبد لله يقول، قبيل انعقاد مؤتمر حزبه الأخير: «نحن نريد مشروعا قائما على ديمقراطية حقيقية، أي على ملكية برلمانية ديمقراطية»، حيث تلقى، بعد انتخابه، «تهنئة» ملكية خالية من أي تنويه. إن حفاظ التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية على الموقف نفسه من «حزب السلطة»، بعدما استسلم الاتحاد الاشتراكي ثم حزب الاستقلال، في 2013، للبام، هو الذي سيجعل علاقة الحزبين «الشيوعي» و«الإسلامي» أكثر انسجاما من علاقة البيجيدي بحزب الاستقلال، الأقرب إليه هوياتيا. لقد أطلق الحزبان تحالفا فوق إيديولوجي اختارا له عنوان «المعقول»، وكان تحالفا مقبولا جدا بالنظر إلى ما أصبح عليه المكونان الرئيسان لأحزاب الكتلة الديمقراطية من ارتباط بحزب الأصالة والمعاصرة ورجله القوي إلياس العماري. وقد كان الكثيرون يأملون أن يؤدي نجاح تحالف «PPS» و«PJD» إلى ردم الهوة النفسية بين الإسلاميين واليساريين، وإعطاء نموذج يساعد في إطلاق نقاش جدي لإيجاد أرضية لالتقاء القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحية والنظيفة والمستقلة لمواجهة سرطان الفساد والاستبداد. لكن الشروط التي جاءت فيها حكومة سعد الدين العثماني كانت، في مستوى من مستوياتها، شبيهة بالتي سبقت ولحقت مجيء حكومة إدريس جطو في 2002، والتي دقت آخر مسمار في نعش الكتلة الديمقراطية، وعطلت عقارب الحياة السياسية، وأعطت المبرر لتأسيس البام، ولم يحركها سوى مجيء حركة 20 فبراير. إن «استقالة» إلياس العماري من الجهة، والتي تأتي بالموازاة مع وضع الانفجار الذي يتخبط فيه حزبه، وخروج التقدم والاشتراكية من الحكومة، مع ما قد يترتب عليه من تفكيك كل تنسيق أو تحالف مع البيجيدي، لهما معنى واحد، هو موت السياسة في المغرب، سواء بالطريقة التي أرادها السياسيون المستقلون، أو التي أرادها التحكم. قد يقول قائل: كل المعطيات تدل على قرب انبثاق لحظة مثل التي حدثت في فبراير 2011. لكن، إذا كانت حركة 20 فبراير قد وجدت حزبا مثل العدالة والتنمية، رغم تخلفه عنها، يحمل شعاراتها انتخابيا، ويصل بها إلى الحكومة، فمن يا ترى من الأحزاب سيحمل شعارات الحراك المقبل؟.