من التحليلات الغائبة، عن مشهد تقييم تجربة حكم الملك، تحليل الخطب الملكية في بعدها المُصطلحي. وفي ظل هذا الغياب، أصدرت مبادرة TIZI دراسة إحصائية للكلمات، من حيث عدد ورودها في الخطب والرسائل الملكية، خلال العشرين سنة الماضية. وقد أخضعت الدراسة 187 نصا للبحث الإحصائي. وقامت بتصنيف الكلمات حسب مجالات السياسات العمومية. لم أكن مهتما بدراسة «المصطلح السياسي»، لكن الذي دفعني إلى الاهتمام به، هو رئيس الحكومة السابق ذ. عبدالإله بنكيران. كنت أتابع خطاباته مثل باقي المواطنين، فوجدت نفسي، أمام طائفة من المصطلحات، التي أبدعها الرجل في سياق الصراع السياسي والانتخابي، وأشهر هذه المصطلحات، «مصطلح التحكم»، الذي أثار جدلا واسعا. استطاع بنكيران، أن يؤسس «فضاء لغويا» جامعا لمن يواليه، ومانعا لمن يخالفه، وكأن الحزب تلاشت مؤسساته وهياكله، وأصبح خطابا سرديا باستعارات مخيفة أو مضحكة. قررتُ حينها، أن أنقل استعمال «منهج الدراسة المصطلحية» الذي طبقته على «بحث تراثي، لنيل شهادة الدكتوراه»، إلى استعماله في دراسة مصطلحات «الحقل السياسي الحزبي»، فكتبت دراسة بعنوان: «الألفاظ الدينية في مهرجانات بنكيران الانتخابية: دراسة وصفية في المعنى الدلالي» نُشرت في مؤلف جماعي، حول الانتخابات الجماعية 04 شتنبر 2015. اكتشفتُ، أن لغة بنكيران، ليست مثار جدل بين النخب السياسية فقط، بل إن الملك محمد السادس، قال رأيه في الموضوع، بلغة واضحة، دون أن يذكر اسمه، وكل القرائن الواقعية تدل عليه. جاء في خطاب العرش 30 يوليوز 2016، قبل «القيامة الانتخابية» بشهرين، ما يلي: «أن البعض يقوم بممارسات تتنافى مع مبادئ وأخلاقيات العمل السياسي، ويطلق تصريحات ومفاهيم تسيء لسمعة الوطن». وفي خطاب العرش 29 يوليوز 2017، بعد إعفاء بنكيران، بأربعة أشهر، والذي وصف ما وقع «بالزلزال السياسي»، قال الملك: «فتدبير الشأن العام، ينبغي أن يظل بعيدا عن المصالح الشخصية والحزبية، وعن الخطابات الشعبوية، وعن استعمال بعض المصطلحات الغريبة، التي تسيء للعمل السياسي». لو افترضنا أن الملك لا يُلمح إلى بنكيران، فإن هذه المقاطع وحدها، تكشف لنا، أننا إزاء ملك مهموم بتحديد المفاهيم وتعريفها، وهذا الذي جاء في خطاب المسيرة 6 نونبر 2014، حيث قال الملك عند حديثه عن الحكم الذاتي، و العلاقة بالأمم المتحدة: «إن من واجبي تحديد المفاهيم والمسؤوليات». وجدتُ أن دراسة «المصطلح السياسي» أمر بالغ الأهمية، لأن المصطلح أول مفتاح لمغاليق الفهم، وخاصة في مجال السياسة، حيث السلطة بنت الغموض. واضح أن من وظائف الخطب الملكية، تعريف المصطلحات، والرد على من يُحرّف التعريف الذي تريده الملكية. ويمكن التأكيد، أن المصطلح الذي حظي بتعريف مستمر في خطب الملك: مصطلح السلطة. ويرد غالبا وفق هذا التركيب: «المفهوم الجديد للسلطة». والغاية من ذلك، الرد على من يروج تعريفا قديما للسلطة، أو تعريفا جديدا مختلفا. لا يكتفي الملك بممارسة سلطته في الواقع ، بل يعمل على تجسيد تلك السلطة في الخطاب، فيتحول الخطاب إلى السلطة، باعتبار الموقع القوي للملك في النظام السياسي، ولذلك قال «بيير بورديو»: «إن اللغة تستمد سلطتها من الخارج». فلا يسمح الملك لأحد، أن يخترق مجاله السيادي اللغوي، الذي يؤطر داخله النخبة والمجتمع، فيعمل على تعريف مصطلح بغير ما أراد الملك، أو يحرف تعريفا لمصطلح عرّفه، ولهذا، تم تفكيك مفهوم التحكم، واختفى من خطابات الأحزاب السياسية، باعتبار أن موقع مروجه في ميزان القوى ضعيف إن لم يكن منعدما. خلال العشرين سنة من الحكم، ظهرت مصطلحات واختفت أخرى. اختفى هذا التركيب المصطلحي:»المشروع/ المجتمع الديمقراطي الحداثي» من خطب الملك: «المسيرة، البرلمان، العرش، الملك والشعب» كان آخر ظهور له يوم 03 فبراير 2004، بمناسبة استقبال الملك لرئيسي مجلسي البرلمان، وتسليمهما له قانون مدونة الأسرة بعد المصادقة عليه بالإجماع. وكان غائبا مصطلح «الرأسمال غير المادي» إلى أن ظهر في خطاب العرش 30 يوليوز 2014. إن الدارسة التاريخية لمصطلحات الملك في خطبه، تساعدنا، من زاوية أخرى، على رصد تطور حكم الملك. تندرج الخطب الملكية في سياق التواصل السياسي، وإذا كان الحقل السياسي سمته الصراع، فإن هذا التواصل يواجه تحديتعريف المصطلحات. إن ما قامت به مبادرة TIZI، يستحق الإشادة، لكنها مبادرة غير مكتملة، تحتاج إلى إطلاق مشروع جديد، يهدف إلى حصر «مصطلحات الملكية»، بجمع المُعرَّف منها، وما ليس بمُعَّرف يُعرَّف، ثم تنظيمها في معجم مصطلحي سياسي، يكشف لنا، عن الخريطة المفهومية لحكم الملك محمد السادس، وعلاقته بباقي الفاعلين.