محمد دعنون -مهندس فلاحي، الكاتب العام للجامعة المغربية للفلاحة رغم اعتماد المخطط الأخضر منذ سنوات، إلا أن اللافت للانتباه هو أن المغرب بالنظر إلى وضعية قطاع الحبوب مازال يعتمد على الواردات ولا يحقق الاكتفاء الذاتي، ماهي أسباب ذلك في اعتقادك؟ يجب الاعتراف بأن الدولة المغربية بعد الاستقلال أولت اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي، ليس فقط باعتماد سياسة استصلاح الأراضي الزراعية وإحداث مكاتب جهوية للاستثمار الفلاحي ومراكز الأشغال، بل وشجعت، كذلك، البحث العلمي الذي مكن المغرب من تطوير بذور ذات إنتاجية مرتفعة بغية تحقيق الاكتفاء الذاتي، إن على مستوى زراعة الحبوب أو غيرها. كما يجب الاعتراف، كذلك، أن الدولة كانت، في تقديري، أقوى من لوبيات التحكم في سوق الواردات، لاسيما تلك المتعلقة باستيراد البذور بصفة عامة. ولذلك، من حقنا أن نتساءل: هل المصلحة الوطنية حاضرة في سياسة الاستيراد المتبعة بالنظر إلى جودة البذور المستوردة وتكلفتها مقارنة بالإنتاج والبحث العلمي الوطنيين؟ وهل هناك إرادة سياسية لصناعة بحث علمي وطني أو بشراكة مع خبراء دوليين لإنتاج البذور بالمغرب، وهنا يمكن الحديث عن البطاطس والطماطم وغيرهما، أم أن لوبي التحكم يفرض أجندته حتى يبقى المغرب رهينا للتبعية في قوته؟ ولذلك، لا يمكننا الحديث عن اكتفاء ذاتي ولا عن خفض للواردات الفلاحية كما كان مأمولا، فقد ارتفعت من 40 إلى 51 مليار درهم، بل ولا يمكننا، أيضا، الحديث عن استقلالية في القرار السيادي للبلاد – وأزمة سنة 2008 شاهدة على ذلك عندما وقف المال عاجزا وإن توفر أمام الحصول على المنتجات الفلاحية، خاصة الحبوب منها بعدما رفضت دول بيع منتجاتها من الحبوب بقرار سيادي لظروف الأزمة المالية والطاقية. لا بد أن يتبنى مخطط المغرب الأخضر سياسة واضحة لتشجيع البحث العلمي وتسويق منتجاته، وإقامة شراكات مع خبراء أجانب لتطويره، وأن تتم محاربة لوبيات الاستيراد التي تفرض أجندتها بقوة لإغراق السوق بالمنتج المستورد ضربا للمنتج الوطني، واستهدافا للبحث الزراعي الذي سجل تراجعا خطيرا في العشرية الأخيرة، كل ذلك كرس التبعية وخدمة أجندة الهيمنة الدولية على الدول النامية والمستضعفة، دون أن ننسى ضرورة تشجيع المخطط المغرب الأخضر، أيضا، لزراعة الحبوب، لأنها باتت الغذاء الرئيس لجل المغاربة، بالدعم المالي لوسائل الإنتاج، وعلى رأسها الأسمدة والمبيدات والعناية بالتسويق. عطفا على هذا الموضوع، خاضت وزارة الفلاحة تجربة تفويت أراضي الملك الخاص للدولة، فهل تفويت أراضي الجموع سينعكس على تحسين الإنتاجية ووضعية الفلاحين؟ سياسة مخطط المغرب الأخضر في توزيع أراضي الملك الخاص للدولة، التي تجاوزت مساحاتها 100 ألف هكتار على الفئة المحظوظة التي استفادت دون غيرها قبيل الربيع العربي بالطريقة المعلومة، والإغداق عليها بالدعم السخي لتجهيزها مع إعفائها من الضرائب دون وجه حق، هي سياسة تركيز الثروة في أياد معلومة دون غيرها لمزيد من التحكم ليس إلا. والقائل غير ذلك ما عليه إلا أن يعطي حصيلة هذا التفويت على المواطن وعلى الاقتصاد الوطني وليس أثره على جيوب هذه الفئة التي لم يلتزم عدد منها بشروط التفويت من استثمار وتشغيل لليد العاملة وغيره، وهناك من يدفع كما بلغني إلى الضغط على الوزارة لانتزاع الضمانات البنكية التي قدموها. وبما أن هذه النوعية من الأراضي من حيث الجودة والتجهيزات بها والبنيات التحتية المرافقة لها أفضل بكثير من أراضي الجموع، فماذا يمكن انتظاره من هذه الأخيرة، اللهم تمليكها لذوي الحقوق قبل أن يطالها ما طال غيرها. يلعب سقي الأراضي دورا مهما في تأمين جودة المحصول الفلاحي المتنوع وتأمين الأمن الغذائي وتعزيزه، كيف تقيم هذا المسار بالنظر إلى ندرة الموارد المائية، وهل استفاد منه المخطط الأخضر؟ سياسة مخطط المغرب الأخضر في هذا المجال يجسدها البرنامج الوطني للاقتصاد من ماء السقي، والذي صرفت عليه ولاتزال مليارات من المال العام، أغلبها عبارة عن قروض من مؤسسات مالية دولية أثقلت كاهل المديونية وصرفت بطرق لو فعلنا فيها المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة ومبدأ “من أين لك هذا؟” لجعلت من هذا الملف، بالإضافة إلى ملف تفويت الأراضي وملف الدعم، أكبر حدث طبع هذا المخطط. أهداف هذا البرنامج في ظاهرها نبيلة ومنها بالخصوص الاقتصاد من ماء السقي وتثمين حوالي مليار متر مكعب من ماء السقي والرفع من الإنتاجية. ولكن إذا اعتبرنا بأن الإنتاج ارتفع بحكم تشجيع بعض السلاسل على حساب أخرى، وبفضل الدعم الذي حصلت عليه وافترضنا أن الإنتاجية ارتفعت هي الأخرى، فمصير منتج العديد من السلاسل معلوم، وما مثال سلسلة الحوامض منا ببعيد بعدما قرر الكثير من المزارعين قلع أشجار الليمون بسبب خسائرهم الفادحة وتحويل “الكليمانتين” في المطارح إلى علف للقطيع. أما بخصوص الاقتصاد من ماء السقي، الذي يعرف تدبيره فسادا مروعا بحكم الموارد المائية الضائعة والمقدرة بملايين الأمتار المكعبة والأموال غير المحصلة والمقدرة هي الأخرى بالملايير، فالمشاريع الكبرى التي تهم استبدال نظام السقي السطحي بالسقي الموضعي، والتي تستهدف مساحة 550 ألف هكتار، تبقى محل تساؤل كبير بخصوص الجدوى ونجاعة الاستثمار التي لم تجرؤ الوزارة أن تعطي عنها أي مؤشر، إن على مستوى التكلفة في الهكتار الواحد، أو على مستوى اقتصاد ماء السقي أو على مستوى إعادة تعبئة “الموارد المائية المزعوم اقتصادها والمقدرة بمليار مار مكعب”. ولعل من بين أكبر المستفيدين من هذا البرنامج لوبي المحروقات الذي يستفيد من الدعم، إذ إن تحويل نحو 600 ألف هكتار إلى السقي الموضعي يتطلب تجهيز الضيعات بمحطات ضخ المياه ويقتضي ميزانية تقدر بحوالي مليار دولار سنويا لشراء المحروقات التي نستوردها من الخارج بالعملة الصعبة لتشغيل المحركات اللازمة لمحطات الضخ، علاوة عن السكوت المريب على استعمال قنينات الغاز “البوطا” في تشغيلها، والتي كما لا يخفى على أحد أنها لازالت تستفيد من دعم صندوق المقاصة لغاز البوطان، في الوقت الذي كان من الممكن استعمال هذا الدعم لتشجيع الطاقة الشمسية في أفق منع استعمال الغاز لأغراض فلاحية. ما هو السبيل لتقوية القدرات الفلاحية وتنمية استقلاليتها وتبعيتها؟ الجواب بقدر ما هو سهل وبسيط على كل وطني حر محب لبلده، بقدر ما هو صعب ومستحيل على من يتحكم في القطاع، والذي همه يتعارض وخدمة المواطنين ومصلحة الوطن وهدفه خدمة لوبيات جعلت من الاستفادة من الريع والامتيازات أجندتها الرئيسة، لأجل التحكم في الثروة، سواء على مستوى الإنتاج أو التسويق أو الاستيراد أو التصدير. الجواب كما قال ملك البلاد حفظه لله هو: رجال وطنيون صادقون، نحتاج إلى رجال أقوياء أمناء، فمادام في مواقع المسؤولية عديمو الكفاءة وسُرّاق المال العام، فلا تنتظر لا إقلاعا ولا تنمية ولا استقلالية لا في القطاع ولا في غيره. الأساس في اعتقادي هو الاهتمام بالطاقات والموارد البشرية الكفأة التي يزخر بها وطننا، ولكن يتم تهميشها لأنها ترفض الفساد وتحارب المفسدين.