ساعات قليلة قبيل انطلاق صافرة الحكم معلنة بدء المباراة التي جمعت المنتخب الوطني المغربي بسناجب منتخب بنين، في الدور ثمن النهائي من كأس أمم إفريقيا «مصر 2019»، الجمعة الماضية، تلونت شوارع العاصمة الرباط بالأحمر، ورفعت الأعلام الوطنية في كل مكان، هذا المشهد يبث روح الحماس في الإنسان، ويخيل للمار من هنا أنه عيد وطني.. وفعلا كان كذلك. على طول شارع محمد الخامس، المؤدي إلى سوق باب الأحد القلب النابض للعاصمة، افترش البائعون الجائلون الأرض لبيع الأعلام الوطنية، وأقمصة أسود الأطلس، ولافتات كتب عليها «عاش المغرب»، وصافرات مزعجة لكنها ضرورية، وطرابيش غريبة لا يجملها شيء سوى اللونين الأحمر والأخضر، ودمى للأسود… وغيرها، وكل هذا أمام أنظار السلطات التي تسامحت بشكل خاص معهم في سبيل «حب الوطن والمنتخب». بدأت عقارب الساعة تقترب رويدا رويدا من الخامسة، حيث هرع المغاربة إلى المقاهي والمطاعم، وأيضا الملاهي الليلية التي فتحت نهارا لاستقبال وفود المشجعين، فكلها أماكن اتفقت على بث هذه المباراة المصيرية التي فشلت القنوات الرسمية المغربية في شراء حقوق بثّها بعدما طالبت الشركة المالِكة للحقوق بأكثر من 10 ملايير سنتيم مقابل بثّ 10 مباريات في البطولة، بما فيها مباريات «أسود الأطلس». قبل نصف ساعة من بدء المباراة، انتقلت «أخبار اليوم» من الرباط إلى الهرهورة، حيث الشوارع في حالة جنونية، فلا تكاد تسمع إلا زعيق السيارات المستعجلة، وركض الناس من كل جهة بحثا عن مكان للاستقرار، بمن فيهم المصطافين ومرتادو الشواطئ الذين تخلوا عن استجمامهم في سبيل مساندة وتشجيع المنتخب الوطني، وعيونهم متقدة بالحماس، حتى إن البعض منهم بدأ يخطط سلفا لكيفية الاحتفاء بالفوز على البنين، والذي كان مؤكدا ولا تشوبه شائبة شك.. حزام المقاهي الساحلية للهرهورة كانت ممتلئة عن آخرها، ومن لم يجد كرسيا فارغا اضطر إلى الوقوف، وكله في سبيل الفوز.. الذي كان مضمونا. «الفوز حليفنا، وأكيد أننا سنحققه، فمنتخب البنين ضعيف، كما أن هذا الشعب متعطش للفرح، والأكيد اليوم أن 40 مليون مغربي سيسعدون»، يقول محمد، صاحب أحد مقاهي المنطقة، في تصريحه ل«أخبار اليوم»، مستنكرا عدم تمكن الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة من شراء حقوق نقل مقابلات كأس أمم إفريقيا، في الوقت الذي تمكنت الجارة الجزائر من ذلك، بقوله: «واش دابا الجزائر أحسن منا؟ موريتانيا أحسن منا؟ أكيد حنا أرباب المقاهي مستافدين، لكن المسؤولين لا يفكرون في مصلحة وسعادة المواطن. تستغل المقاهي هذا الوضع وترفع أثمنتها إلى الضعف تقريبا دون مراقبة، من الضحية؟ هذا الشعب. ومن المستفيد؟ نحن. ومن السبب؟ المسؤولون»، يقول الرجل الخمسيني غاضبا. ما يقوله صاحب المقهى صحيح، فحسب ما عاينته «أخبار اليوم»، وجدت مقاهي المنطقة، التي تعرف رواجا طيلة السنة والتي لا تختلف كثيرا عن باقي مقاهي العاصمة، في عدم بث التلفزة المغربية مباريات كأس إفريقيا فرصة لتحقيق أرباح مضاعفة، حيث وصل ثمن مشاهدة المباراة إلى 35 درهما عن كل استهلاك، بمبرر أن ثمن الاشتراك في القناة القطرية الناقلة ارتفع تزامنا مع انطلاق هذا العرس الإفريقي و«كوباأمريكا». لم يهدئ من روع حماس المغاربة، وهم يرددون الشعارات التشجيعية، سوى النشيد الوطني الذي أعلن بدء المباراة، ما أضفى على الجو حماسا أعمق، خاصة أن الصغير قبل الكبير وضعوا تلقائيا أيديهم على صدورهم، وبدؤوا في ترديد النشيد بصدق وحب وإيمان بالوطن وبفوز الأسود، محق من قال إن «لا شيء يسعد هذا الشعب المقهور بكل تلاوينه أكثر من كرة القدم». بعيون متعطشة للفوز، تابع المغاربة مباراة المنتخب الوطني والبنين، خاصة أن العلامة الكاملة في الدور الأول أعلت سقف انتظارات الجمهور التواق إلى الانتصار، وجعلته يحلم برباعية نظيفة تنقله مباشرة إلى الدور الموالي، غير أن المنى لا تتحقق دائما حتى وإن نضجت شروط ذلك.. هذا تماما ما حدث للمغاربة، حيث بدأ حماسهم يخفت مع كل محاولة تسجيل فاشلة، وذلك في الوقت الذي تفنن فيه المنتخب الوطني في تضييع فرص سانحة لتحقيق هدف 40 مليون مغربي. كرات طائشة واختراقات محدودة توالت، فيما المغاربة في كل مرة يقفزون من أماكنهم من الحماس. محاولة اللاعب حكيم زياش في الدقيقة 28 من الشوط الأول، اهتزت لها الأمواج البشرية في كل مكان وهم يرددون كلمة واحدة «سير سير سير».. لكن الكرة حلقت بعيدا ومعها أحلام المغاربة، لتخيم على الجموع حسرة عميقة، لم يمسحها سوى الهدف الأول في شباك البنين، والذي انتفض له المغاربة الذين ظنوا أن العقدة انفكت وبدأ موسم التسجيل، غير أنه سرعان ما عاد الحكم لإحباطهم معلنا إلغاء الهدف الشرعي الذي سجله أشرف حكيمي بداعي التسلل، وهو ما نفته أيضا الإعادة التلفزية، لكن كلمة الحكم هي الفاصل. انتهى الشوط الأول بحسرة كبيرة، لكن المغاربة كانوا مصرين على تصديق انتصارهم القريب، خاصة أن المباراة كانت مكللة بدعوات الأمهات والجدات اللواتي كن أيضا على الموعد في المقاهي رفقة أسرهن، أحفادهن وبناتهن، وهو التلاحم الأسري الذي لا نراه في كل مناسبة بالمقاهي، فوحدها كرة القدم توحد المغاربة حول حلم واحد طال انتظاره منذ أزيد من 40 سنة حرمنا خلالها من الظفر باللقب القاري. الحاجة زهرة برادة، آمنت بدورها بفوز قريب. تقول ل«أخبار اليوم» إن مجيئها هو دليل على وطنيتها، فمرضها ب«الروماتيزم» وألم المفاصل لم يمنعها من القدوم رفقة زوجها وأبنائها الثلاثة وحفيدها إلى المقهى لمتابعة الأسود، قائلة: «مكنفهمش فالكورة، ولكن حنا معهم، وصلينا ودعينا معهم، والله يفرحهم كيفما فرحو هاد الناس»، مضيفة: «إن شاء الله يماركيو في الشوط الثاني، راجلي فيه السكر دابا يطلع ليه إيلا ماربحوش»، تقول الحاجة وهي تمازح زوجها، ما أضفى على الجو طرافة استحسنها الموجودون في المقهى جميعهم. للأسف، دعوات الحاجة زهرة وقريناتها لم تنفع أمام غزو السناجب البنينية، التي استطاعت تسجيل أول هدف لها بعد 10 دقائق من بداية الشوط الثاني، فساد صمت مريب في المقاهي يعكس حالة الصدمة والذهول أمام هول الفاجعة، التي قسمت صفوف المشجعين بين فاقد للأمل في التأهل وبين متفائل وواثق في الفرج الذي سيرد الاعتبار إلى الأسود، فالأكيد أن قانون الطبيعة واضح في هذه الأمور، «لا يسع السناجب التفوق على الأسود». غير أن القوانين عموما وضعت لتُخترق، وهذا تماما ما حدث مع المنتخب الوطني عندما أضاع اللاعبان سفيان بوفال ويوسف النصيري ضربتي جزاء تواليا، ما منح الفرصة للخصم لحسم اللقاء قبل الوصول إلى ضربة الجزاء الترجيحية الخامسة، رغم الضربة اليتيمة التي سجلها أسامة الإدريسي لأسود الأطلس، ثم إهدار حكيم زياش العديد من فرص التسجيل السهلة، فتحولت طموحات المشجعين من «رباعية نظيفة إلى هدفين فقط مقابل الهدف المسجل في مرمانا». ريان، طفل في التاسعة من عمره، كان يتابع المباراة بتركيز شديد جدا لاحظه أغلب من في المقهى، فعلى عكس أصدقائه، لم يكن هذا الطفل الذي يلون وجهه بالعلم المغربي يتحرك كثيرا أو يبارح مكانه من فرط الحماس، يقول ل«أخبار اليوم» بعينيه الكبيرتين اللتين تعكسان أسى العالم: «المغرب سيخسر، رونار مصر على زياش الذي لا يستطيع التسديد. رونار سيكون سببا في إقصائنا، خاصة أنه استبدل أمرابط، أي مجنون هذا الذي يُخرج أمرابط من الملعب. إنه مقاتل والأفضل بينهم، إلى جانب بوصوفة». تحليل الطفل ريان، الذي كان رصينا، اتفق معه الكثيرون ممن ألقوا مسؤولية خروج المنتخب الوطني المغربي خاوي الوفاض من دور الثمن النهائي لبطولة أمم إفريقيا على اختيارات الناخب الوطني، وإصراره غير المفهوم على اللاعب زياش الذي كان مغيبا ذهنيا. وصولا إلى الضربات الترجيحية، بدأ المغاربة في ترديد جملة موحدة يبدو أن صداها لم يصل إلى مصر: «واحد جوج ثلاثة الشبكة، واحد جوج ثلاثة الشبكة»، غير أن الشبكة البينينية لفظت كرات الأسود، وأجهضت حلم أمة، في الوقت الذي لم يستطع فيه أغلب المشجعين استكمال المباراة، وغادروا المقاهي عائدين إلى حياتهم العادية، رافضين الإدلاء بأي تصريح، مكتفين بعبارة «الله ياخد الحق» و«لا حول ولا قوة إلا بالله»، و«العيب علينا حنا اللي جينا نشجعوهم». دموع، ألم، وإحباط… كلها كانت حاضرة، فحلم التتويج أهدر على حين غرة، وانبعث وباء «البؤس» و«الأسى» و«الغضب» من جديد في صفوف المغاربة لن يداويه غير حلم جديد بالتتويج في موسم آخر.. قريب وربما بعيد.