يستمر مسلسل توقيف خطباء المساجد من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فقد توصل أحد خطباء مساجد مدينة مكناس وهو يعمل أستاذا للدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة مولاي إسماعيل، بقرار عزله من الخطابة من طرف وزارة أحمد التوفيق، بعدما اتهم مدينتين مغربيتين ب”المعصية وانتشار الفساد”، وتم الاستماع إليه على إثر ذلك، بعدما أثارت خطبته ضجة واسعة بسبب الكلام الذي قاله في خطبة يوم الجمعة الماضي 7 يونيو 2019، والذي يسيء فيه لمدينتي الحاجب ومارتيل، بعد قوله عبارة “آلو المعصية فين راكي؟، هانا فمارتيل، آلو المعصية فين راكي؟، هانا فالحاجب”، مما عرضه لانتقادات من طرف نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، مستنكرين الأوصاف التي نعت بها المدينتين والطريقة التي ألقى بها خطبته، معتبرين أن ذلك بعيد عن قيم الدين الإسلامي ومقومات الخطابة والدعوة، فهل هناك ما يمنع الخطيب فعلا من ممارسة مهامه الدينية وانتقاد الظاهرة الاجتماعية بنفس ديني وفقهي، أم أن حرية الخطيب تقف عند الحدود التي ترسمها ثوابت الدولة والتي تلزم الخطيب الذي أخذته الحماسة أن ينضبط لما يجمع ويبتعد عما يفرق الناس ويشتت تفكيره الديني الذي تضمن سلامته وحدة المذهب. الخطيب ودفتر التحملات عبد الوهاب رفيقي أبو حفص، قال في أول تعليق له على عزل خطيب مكناس، لاشك “أن لخطبة الجمعة موقعا حساسا، بحكم أن الخطيب يتوجه يوميا للملايين من المرتادين للمساجد، الذين يحضرون لينصتوا للخطبة بخشوع وإنصات، ويستعدون لتقبل كل ما يصدر عن الخطيب، ولذلك فلخطبة الجمعة تأثير على المجتمع، ومهمتها حساسة جدا بحكم أن لها احتكاكات بقضايا مجتمعية”. وهي المهمة الدينية الجسيمة، التي تفرض على خطيب الجمعة، يضيف أبو حفص “أن يكون في مستوى المنبر، ويتقيد بالخطوط العامة وضوابط خطبة الجمعة”. لا يقف الأمر عند هذا الحد، فقد شدد الباحث في العلوم الإسلامية على أن “الخطيب عليه أن يصعد إلى المنبر بناء على دفتر تحملات يلتزم فيه بعدم تجاوز الخطوط الحساسة، ومن بينها إثارة الفتن داخل المجتمع، سواء من خلال الطعن في الأشخاص أو المناطق، أو إثارة أية حساسيات عرقية، أو احتقار أي طائفة، أو أقلية كانت دينية أو عرقية، سواء أكان وجودها ضعيفا أو كبيرا داخل المجتمع”. أبوحفص الذي كانت خطبه نارية في وقت من الأوقات بمدينة فاس، يؤكد اليوم أن “خطيب الجمعة عليه أن يلتزم وألا يدرج نفسه في قضايا الخلاف الواقعة داخل المجتمع، أو أن يصنف نفسه ضمن تيار المجتمع، أو ينتصر له من دون الآخر لأنه خطيب للجميع، ومهمته العمل على توعية المجتمع بالقيم العامة التي يتفق عليها”. وفق هذا التحليل الذي ذهب إليه عبد الوهاب رفيقي، فإنه “يطلب من الخطيب أيضا ألا يقحم نفسه في الصراعات، والإشكالات السياسية لأنها قضايا مجتمعية مختلف فيها، وعليه تبعا لذلك أن يتوجه إلى الناس بما يتوافقون عليه، في قضايا القيم والأخلاق والتوعية بها، وقضايا المواطنة الصالحة، يضع نصب عينيه وهو يعد لخطبته ألا يقحم نفسه في أي متاهات، سواء المتعلقة بالأشخاص أو المناطق أو الفئات أو الطوائف”. الحجر على الخطيب الشيخ حسن الكتاني، عضو رابطة علماء المغرب العربي، قال إن “الخطيب هو موجه ومربي ومن المفترض أن يكون قد بلغ مبلغا لا بأس به من العلم”، فحسب رأيه ف”ليس الخطباء جميعهم علماء، لكنهم بالجملة يبلغون عن الله ما يعرفون، ومنهم المقل والمستكثر، فإذا كان الخطيب عالما مؤهلا فليس لأحد أن يحجر عليه فيما يقول”. ويوضح الكتاني بقوله: “إذا كنّا نسمح للصحفيين والكتاب بأن يصدروا آراءهم ويبينوها ولَم نعد نحجر عليهم، وتقوم قيامتنا إذا أوقف أو اعتقل كاتب من الكتاب؟ فكيف بالمساجد التي هي المسؤولة عن تربية الشعب، والتي يزورها الآلاف من المواطنين لكي يستمعوا ويستفيدوا بما يفيدهم طوال الأسبوع”. ونظرا للتضييق والحجر على الخطباء والعلماء والدعاة، أصبحت خطب الجمعة باردة، يضيف الشيخ الكتاني، و”يمنع عليهم أن يتحدثوا في العديد من المواضيع، بعد أن أصبح كلامهم محجورا في المنابر”. بالنسبة للكتاني ف” الإسلام يختلف عن أديان تفرق بين الدين والدنيا، فهو دين شامل وشريعته شاملة لجميع مناحي الحياة، وليس لأحد أن ينهى العالم أن يتكلم، إلا بشرط إذا خرج عن الأصول الشرعية، وهذا الأمر تقرره المجالس العلمية، التي يرأسها علماء، أما أن يتحكم في الخطيب والداعية مجرد ناظر أوقاف ليس له أي نصيب من العلم لأنه خالف هواه، فلا شك أن هذا من احتقار العلم والعلماء ومن إهانة أهل الدين”. الخطيب والتشتت الفقهي الشيخ محمد الفيزازي، يرى أن “الدولة لديها منهج دقيق من مفرداته عدم التدخل في السياسة بشكل قطعي، بمعنى لا يجوز للخطيب أن يكون صاحب لون سياسي معروف أو معلوم، فقد يكون له الحق أن يمارس السياسة خارج المسجد، إلا أن خطبة الجمعة لا علاقة لها بلونه السياسي، لأن الذين يصلون أمام خطيب الجمعة، ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة، فإذا قام هذا الخطيب بتزيين حزبه والدعوة إليه، فهو يسيء للأحزاب الأخرى ويستغل المنبر والدين الإسلامي الذي من المفترض أن يكون دينا للجميع، لا دين لاستقطاب الناس إلى حزبه هو، لذلك فوزارة الأوقاف صارمة في هذا المجال”. ويشدد الفيزازي على أن “أي خطيب مارس السياسة بشكل أو بآخر ولو بالإشارة، فمعنى هذا أنه خرج على العهدة والميثاق”، فبالنسبة إليه “الدولة اختارت المذهب المالكي من الناحية الفقهية، فلا يجوز للخطيب أيضا أن يخرج عن المذهب ويدعو إلى اعتناق مذاهب أخرى”. فسياسة الدولة تستهدف في نظر الفيزازي “تحصين المغاربة من التشتت الفقهي، لأن التعدد الفقهي هو الذي أوجد الحروب الطاحنة في الشرق الأوسط”. الخطيب بهذا المعنى الذي يتحدث عنه الفيزازي إذا خرج عن الوحدة المذهبية، فإنه “يعرض نفسه بالضرورة إلى التوقيف، وحينئذ يكون من أن أسباب عزله أيضا تورطه في الدعوة إلى ممارسة سياسية فوق المنبر”، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالإشكال بالنسبة للفيزازي، الذي يمارس الخطابة بشكل رسمي منذ ثمانينات القرن الماضي، “ليس هناك من حرج أن يُبين الخطيب للناس أحكاما شرعية من الدين، فالدولة لا مانع لها أن يتحدث الخطيب في الربا والتبرج وأنواع من الموبقات كالسرقة والرشوة، ولكن عندما يصبح الخطيب يشير إلى هذه الأمور محملا الدولة المسؤولية، هي التي ترخص وتحمي وتبني، فيتحول الأمر من دعوة الناس وتذكيرهم ووعظهم، إلى تهييج وتأليب الدولة ضد المواطنين، فهذا يتسبب في الفتنة، وساعتها لن تقبل الدولة أن ينتشر هذا النوع من الخطاب”. وفي جواب له عن سؤال هل يحق لنا تكبيل وتقزيم لسان الخطيب؟، قال الفيزازي، “إن على الخطيب أن يكون واعيا وملما بدين الله والشريعة والكتاب والسنة، والواقع الذي يعيش فيه، وملما أيضا بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، وهنا تبرز نباهة الخطيب في اختيار المواضيع، وكيف يؤدي الخطبة، ويجمع ولا يفرق، فكلنا يمارس السياسة فوق المنبر لكن نمارس سياسة تجمع ولا تفرق”. الارتقاء بخطبة الجمعة وبعد الكشف عما يعتري خطبة الجمعة من اختلالات، تقترح الورقة الإطار أسسا لتجاوزها والارتقاء بها لتقوم بوظيفتها على الوجه الأكمل، ومن تلك الأسس مراعاة حرمة منبر الجمعة، وقدسيته، وتنزيهه عن كل عبث. بحيث يشترط فيمن يعلوه الورع والتجرد من الأهواء، لأنه ينوب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعين عليه بموجب ذلك الاقتداء به في خطبه، كما أنه ينوب عن الإمامة العظمى التي تلزمه بالتقيد بتوجيهاتها. وتبعا لذلك لا يجوز للخطيب أن يستغل منبر الجمعة لأغراض سياسية أو نقابية، أو يتخذه وسيلة لنشر أفكاره وفرض آرائه بل يتحدث باسم الإسلام. كما توضح الورقة الإطار، أن الارتقاء بخطبة الجمعة يتطلب تأهيل الخطباء عن طريق تكوين مستمر متكامل علما وسلوكا، وتزويدهم بالمعارف والمهارات الضرورية، وتوعيتهم بأهمية مهمتهم الخطابية، وما تتطلبه من سمت حسن لأن الناس يتأثرون ويقتدون بهم. كما تقترح الورقة الإطار تزويدهم بدليل محين باستمرار، وتمكينهم من آليات تحرير وإلقاء الخطب، وتجنيبهم مزالق الارتجال. وتشير الوثيقة أيضا إلى ضرورة معرفة الخطيب بأحوال الناس، وهمومهم، واهتماماتهم، وعوائدهم، وأعرافهم، وتقاليدهم، ونفسياتهم، وتطلعاتهم، فضلا عن معرفة ما يدور في الساحة من آراء وأفكار متضاربة، وكذا الوعي بدور الفاعلين. وتقترح الوثيقة الإطار أيضا تجديد أسلوب الخطابة، وتنويع أساليبها دفعا للرتابة والملل، واختيار المواضيع المهمة التي تلقى التجاوب من السامعين، وتجنب القضايا المثيرة للخلافات والفتن والنزاعات، وتصفية الحسابات، وكل القضايا التافهة التي لا جدوى من ورائها ولا نفع، فضلا عن مراعاة مستويات الناس ومخاطبتهم بما يفهمون مع تجنب التعقيد في الأسلوب أو الركاكة، ولا بأس بتوضيحات بالعامية والأمازيغية عند الضرورة. وتدعو الورقة إلى التيسير والتبشير، وزرع الثقة في النفوس مع الرفق بهم وتحاشي الغلظة الفظاظة، وترغيبهم في التسامح، والانفتاح، والوسطية، والاعتدال. وتطالب الوثيقة الخطباء بارتداء الجلباب والسلهام، واعتماد العصا، وتقصير الخطب، مع تحاشي الارتجال المستخف بالمخاطبين، وتجنب المواضيع المتسلسلة لغير ضرورة، أو نقل الخطب من الأنترنيت أو من الدواوين القديمة المتجاوزة، وتجنب الإشارة إلى مصدر الخطب الموحدة حفاظا على تشويق المخاطبين مع حسن الإلقاء ، وتحاشي الأخطاء، والإسراع في الأداء، ومع الإخلاص في الدعاء للإمام الأعظم. وتنتهي الورقة الإطار بالتنويه بالعمل الجماعي من خلال تكريس مركزية المؤسسة العلمية إشرافا وتوجيها، وتبادل الخبرات، وتكامل العاملين في الحقل الديني على مستوى المجالس العلمية الجهوية والمحلية، مع ضرورة انضباط الخطباء على وجه الخصوص والتزامهم بتوجيهات المؤسسة العلمية.