منذ الربيع العربي سنة 2011، استعملت كل من العربية السعودية والإمارات، مواردهما الهائلة لدعم السلطويات الحكومية التي يقودها قادة الجيش الأقوياء في المنطقة. إذ ساعدتا على كسر الثورة في البحرين، ودعمتا ماليا عودة ديكتاتورية الجيش في مصر، وزودتا قائدا عسكريا ضالا في ليبيا، وأساءتا تدبير الانتقال الديمقراطي في اليمن قبل إطلاقهما حربا مدمرة هناك. وظهر فصل جديد من حملة السعودية والإمارات لمواجهة الثورات، ضد الحركات الديمقراطية في السودان. جنرالات السودان أطلقوا العنان لحملة رهيبة من العنف ضد داعمي الديمقراطية. في صبيحة 3 من يونيو، هاجمت قوات سودانية الاعتصامات في العاصمة الخرطوم، ومناطق أخرى، وقتلت أكثر من 100 شخص، وجرحت أكثر من 500. ورغم إغلاق شبكة الإنترنيت، فإن التقارير وصور الفيديو، تسربت: صور دماء المتظاهرين وهم يحملون بعيدا عن مكان الحادث لتلقي الإسعافات. روايات مُفجعة عن اغتصاب العصابات للأطباء، وجثث مشوهة للمتظاهرين تم سحبها من نهر النيل. حرق المتظاهرين في خيامهم التي كانوا يعتصمون فيها. الرجلان المسؤولان عن القوات التي ارتكبت هذه الفظاعات هما الجنرال عبدالفتاح البرهان، والجنرال محمد حمدان، المعروف باسم حميتي. وهما يترأسان المجلس العسكري الانتقالي الذي حل محل الرئيس المخلوع عمر حسن البشير. يتولى اللواء حمدان قيادة قوات الدعم السريع، وهي قوة شبه عسكرية تم إنشاؤها بعد إعادة تسمية ميليشيات “الجنجويد” التي نفذت عمليات الإبادة الجماعية في دارفور. وجاءت الحملة بعد أسابيع من المفاوضات بين قادة المحتجين والمجلس العسكري وصلت إلى طريق مسدود. يطالب قادة الاحتجاج أن يسلم الجيش السلطة على الفور إلى المدنيين، فيما يصر المجلس على الحكم العسكري حتى الانتخابات الموعودة في غضون تسعة أشهر. يخشى المحتجون من أن الانتخابات في إطار المجلس العسكري لن تكون حرة أو نزيهة، بل مجرد غطاء لإضفاء الشرعية على تعيين ديكتاتور عسكري جديد، وهو ما يكرر ما حدث في مصر عام 2014 عندما فاز المارشال عبدالفتاح السيسي بنسبة 97 في المائة. وصل السيسي إلى السلطة بعدما قتل الجيش المصري ما يصل إلى 1000 متظاهر غير مسلح في اعتصام في ميدان رابعة في القاهرة في عام 2013. لهذا كان المتظاهرون السودانيون يرددون “إما النصر أو مصر”. كما يخشى أنصار الديمقراطية في السودان من أن القوى ذاتها التي دفعت السيسي إلى السلطة في مصر تريد التحكم في السودان. قبل وبعد مذبحة رابعة، حصلت مصر على دعم دبلوماسي ومليارات الدولارات من المساعدات المالية من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. تربط اللواء البرهان والجنرال حمدان علاقة عمل وثيقة مع القيادة السعودية والإماراتية منذ عام 2015 على الأقل، بعد مشاركتهما المباشرة في الحرب التي قادتها السعودية على اليمن. كان الجنرال البرهان يشرف على أكثر من 10 آلاف جندي من القوات البرية في اليمن. وتشمل هذه القوات الآلاف من رجال الميليشيات من قوات الدعم السريع برئاسة اللواء حمدان. عندما تعرض البشير لحصار الاحتجاجات الشعبية في أوائل أبريل، اعتقد القادة العسكريون السودانيون أن الوقت قد حان لتهميشه. وسافر وفد منهم إلى القاهرة لتأمين الدعم السياسي والمالي من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة. هذه الدول كانت ترفض علاقات البشير بالإسلاميين وتواصله مع تركيا وقطر. هكذا تم التواصل مع الجنرال البرهان والجنرال حمدان. بعد تولي المجلس العسكري الانتقالي السلطة، أصبح هناك شعور واضح بتأثير السعودية والإمارات: في 21 أبريل، وافقتا على 3 مليارات دولار كمساعدة للسودان، في محاولة لتقوية المجلس. ولكن في الأسابيع التالية، واصل المحتجون الضغط، وزاد عددهم في معسكرات الاعتصام مع استمرار المفاوضات المتوترة. في أواخر ماي، التقى الجنرال حمدان بولي العهد السعودي محمد بن سلمان وأكد من جديد التزامه بالتحالف الوثيق مع المملكة. والتقى الجنرال البرهان بالسيسي في القاهرة، وأيضا التقى بحاكم الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد، في أبوظبي. وبدا أنهم عائدون إلى وطنهم بدعم كبير: أعلنوا انهيار المفاوضات مع المعارضة السودانية، ورفضوا الدعوات بتسليم السلطة، وأعلنوا أن معسكرات الاعتصام تشكل “تهديدًا للأمن القومي للدولة”، ومنعوا قناة “الجزيرة” من إنجاز تقارير من السودان. ثم جاء هجوم 3 يونيو على المتظاهرين، والذي حمل أصداء الهجوم على “دوار اللؤلؤة” في البحرين في عام 2011 والمذبحة المصرية. أظهرت مقاطع الفيديو التي حمّلها المواطنون الصحافيون على وسائل التواصل الاجتماعي معدات عسكرية إماراتية منتشرة بواسطة الميليشيات السودانية. وعبرت حسابات “تويتر” المؤثرة التي تسيطر عليها السعودية عن دعمهم للقادة العسكريين في السودان، وحذروا من “حماقة” الانتفاضة الشعبية. تم تسليط الضوء على الدور السعودي الإماراتي في السودان من خلال رد فعل الولاياتالمتحدة حين استدعى وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان ووزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، أنور قرقاش، للتعبير عن قلقهم إزاء القمع ودعا إلى “أهمية الانتقال إلى حكومة بقيادة مدنية وفقًا لإرادة الشعب السوداني”. وتزعم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أن تدخلاتهما تهدف إلى درء التطرف الإسلامي وتعزيز الاستقرار الإقليمي. لكن انتفاضة السودان ضد البشير هي انتفاضة ضد الإسلاميين السياسيين، وقادة الاحتجاج الذين كانوا يتفاوضون مع المجلس العسكري ليسوا إسلاميين. المملكة العربية السعودية والإمارات يدفعهما خوفهما من أنه إذا تحول بلد عربي كبير إلى الديمقراطية، فسيؤدي ذلك إلى ثورات في الداخل. ونظرا إلى كون جيران السودان العرب يوجدون تحت السيطرة السعودية والإماراتية، فإن الولاياتالمتحدة لا تفعل سوى القليل للتعبير عن القلق، وهذا ما جعل رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، يأخذ زمام المبادرة للوساطة بين المجلس العسكري والمعارضة. و تعبيرا منه عن الغضب من أعمال القتل في السودان، قام الاتحاد الإفريقي بتعليق عضوية السودان ودعا إلى حكومة انتقالية يقودها مدنيون. لكن طالما أن الطغمة العسكرية تحظى بدعم سياسي ومالي من السعوديين والإماراتيين، فإنه لن يكون هناك سبب وجيه يدفعها للتراجع. ويواصل قادة الاحتجاج الالتزام بعدم اللجوء إلى العنف رغم جولة أخرى من الهجمات التي شنتها القوات السودانية الأحد لإحباط إضراب عام.. معارضة السودان محاصرة .. مؤلمة.. ولكنها متحدية”. نيويورك تايمز إياد البغدادي