في هذه اليوميات، التي كتبت مباشرة عقب العودة من روسيا، حيث نظم مونديال 2018 لكرة القدم، سيجد القارئ رحلة صحافية مثيرة؛ فيها الكثير من المعاناة، ولكن فيها أيضا الكثير من الكشف عن مناحي الحياة الإنسانية. بين السطور تمتزج رحلة صحافية يبحث من خلالها صاحب اليوميات عن الخبر، والجديد، ليكتب كل يوم لجريدته، وهوامش مهمة للغاية، تنقل للناس صورة روسيا اليوم، أو انطباعات شخصية عن روسيا اليوم، وهي الأصح. كان متوقعا، جذبت مباراة المنتخب الوطني ضد نظيره الإسباني الأنظار. فالمغاربة كانوا يودعون المونديال، ويريدون شيئا يبقى عالقا في الذاكرة. أما الإسبان، فكانوا يدخلون مرحلة أخرى في المونديال، ولا يهمهم سوى أن يستمروا. ومرة أخرى، كان الجمهور المغربي مذهلا في ملعب كالينينغراد. رغم الأمطار التي لم تتوقف، جاؤوا بكثرة. وراحوا يرددون أهازيجهم الحماسية. وحين حل موعد النشيد الوطني، ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس بطاقتهم المتجددة. انطلقت المباراة بحماس ظاهر. وسرعان ما تبين الفارق بين المنتخبين؛ الوطني يلعب بحماس زائد، لكي يفوز، ويثبت أن خروجه كان عبارة عن حادثة سير في طريقه، والمنتخب الإسباني يلعب بحذر شديد، لكي لا يجد نفسه، إثر هدف مباغت في مرماه، بعيدا عن المنافسة. وهكذا، فإن اللاعبين المغاربة لم يبخلوا بجهدهم. لم يبخلون به وليس أمامهم سوى هذه المباراة.. إنها الخاتمة. في حين، بدا اللاعبون الإسبان متريثين في البذل، ويحسبون كل ضربة، حتى إنهم ظهروا، في بعض الأحيان، مترددين أكثر من اللازم. ومع أن الحماس الجماهيري جعل المنتخب الوطني يظهر قويا وشديد المراس، فإن الأداء الإسباني كان مطربا في واقع الأمر، بتلك التمريرات التي تشبه موسيقى رزينة. فكلما عم الهدوء الملعب، سمعت الضربات من أقدام لاعبي لاروخا أكثر، وتيقنت أن وراء ذلك كله مسارا طويلا من التكوين الجيد والثقة في النفس. في الدقيقة ال14 من الشوط الأول، دوى الملعب كله. هدف للمهاجم بوطيب. كان قد اختلس الكرة من مدافع إسباني، وركض مندفعا نحو المرمى، ثم سدد الكرة بهدوء. ولم يعلم ساعتها أنه أسكت كل الجمهور، ورفع ضربات القلب، حتى إن أحد زملائه راح يدعو له في تلك الثواني القليلة، لكي لا يضيع الهدف. ولم تمر سوى دقائق، فإذا بالإسبان يحرزون هدف التعادل بواسطة إيسكو. صرخ الإسبان بفرح، وصرخ المغاربة بوجع. وعاد كل شيء إلى نقطة الصفر. وكأن المباراة بدأت من جديد. وكأن أحدا لم يحرز الهدف. وكأن الجمهور لم يتململ، ولم يصرخ. وكأن الحكم صفر للتو. بين الشوطين كنا نجلس في المركز الإعلامي. هناك أشياء كثيرة تستحق أن تكتب وتبعث فورا إلى المواقع الإخبارية في المغرب، لكي تنشر ويتابعها الجمهور. صور الملعب، وهبَّات الجماهير، وطبيعة العشب، وردود فعل المدربين واللاعبين في الاحتياط، وسحنات المسيرين، وصرامة المنظمين، وابتسامات المتطوعين أيضا. وأشياء غير ذلك كثيرة. جرنا النقاش إلى متابعة جزء من الشوط الثاني في شاشات المركز الإعلامي. بالضبط في مطعمه الصغير، الجانبي، حيث بعض الأطباق تباع بثمن زائد. «الجوع كافر»، كما يقول المغاربة، ويحتاج إلى طعام ليقضي عليه. والمكان جميل، ويبعث الراحة في النفوس. بل ربما أدى بك إلى غفوة، بفعل الهدوء من جهة، وتلك «الموكيطات» (السجادات) الرمادية التي تريح القدمين، والوجوه المبتسمة للمتطوعين، وحركتهم التي لا يسمع لها همس. في كل الملاعب التي زرناها بروسيا، وضمنها ملعب كالينينغراد، استعملت المسافة بين الجدار الخارجي والمدرجات لإراحة الجمهور، بتوفير فضاءات شاسعة للتغذية، والنظافة، وتزجية الوقت بين الشوطين، واستعادة الأنفاس، ثم الخروج الآمن من الملعب، مع نهاية المباريات. كانت اللحظات الأجمل في المباراة هي تلك التي راحت فيها الجماهير تتحرك ب«التموج»، وهي تتغنى بحركيتها تلك. استمرت «الموجة» فترة مهمة، عبر فيها الجمهور، بطريقته، عن رغبته في ألا تنتهي المباراة بهدف لهدف، بل بما هو أكثر من ذلك. وكأنما فهم اللاعبون الرسالة، فإذا بنا في الدقيقة 81 نتابع الهدف الثاني للمنتخب الوطني المغربي؛ سجله برأسية لاعبه النصيري. وبينما كانت الجماهير المغربية تطالب بالمزيد، وهي تدفع لاعبيها بصراخ حماسي، إذا باللاعب آسبا يضيف هدف التعادل للإسبان في الدقيقة ال91. كان ذلك الهدف مثيرا جدا. فقد أخرج أحد اللاعبين المغاربة الكرة إلى الزاوية، فيما لعب الإسبان كرتهم من المكان الخطأ. وهكذا، استغل لاعبو لاروخا احتجاجات نظرائهم على الحكم لكي يحولوا الفرصة إلى هدف، وينقذوا فريقهم من الهزيمة. لم يستسغ اللاعبون المغاربة ما وقع. بدا ذلك واضحا في العيون الباكية. ورفع فيصل فجر العلم المغربي، وراح يركض في الملعب. أما رئيس الجامعة، فوزي لقجع، ففعل ما لم يكن ينبغي له، وهو النزول إلى الملعب، والاحتجاج على الحكام. ولم تغادر الجماهير المغربية إلا بعد حين. كانت لاتزال مذهولة جراء ما وقع. تمنت الفوز، لكن لم يحدث ذلك. في الندوة الصحافية، التي جرت بعد المباراة، تحرر رونار، هذه المرة، من البروتوكول، وقال إن التحكيم كان ظالما. ركز على الركنية التي لم تلعب من موقعها. واعتذر إلى الجمهور. قال إنه كان يتمنى الفوز بدوره. لكن المهم هو المشاركة الحماسية. ورفض ربط مستقبله بالمغرب. أحدث رجة… في الجانب الآخر، كان اللاعبون بدورهم يبرزون غضبهم، وهم يعبرون من المنطقة المختلطة. ولاحظ الزملاء أن لاعبينا يتعاطون أكثر مع الإعلام الأجنبي، مع بعض الاستثناءات، يتقدمها ابن كلميم، اللاعب امبارك بوصوفة، الذي قال إن الحكم أهدى الفوز للإسبان. غادرنا الملعب، في تلك الليلة، متأخرين. كنا نشعر، وقد اقترب موعد العودة إلى المغرب، بأننا صرنا أكثر تخففا من الأعباء. ومع ذلك، فقد مشينا ليلتنا تلك كثيرا. اتخذنا طريقنا نحو وسط المدينة مشيا، عسانا نتتبع حركية الجمهور لكي ننقلها إلى المتتبع المغربي. فقد راح جمهورنا يحتفي باللحظة. غنى، وطرب، وأطرب معه. ولو أن أهالي كالينينغراد كانوا أقل تجاوبا، وبرز رجال ونساء الشرطة في كل موقع، تحسبا لأي طارئ. في مركز المدينة، كان محل ماكدونالدز أشبه بملعب آخر. التدافع على أشده. وانتظرنا وقتا معتبرا لكي نحصل على أكلة. فبدا المحل من الداخل مغربيا بامتياز. استعادة لأطوار المباراة. احتجاج على التحكيم. تساؤلات بخصوص ما وقع للمنتخب. وحديث عن العودة إلى موسكو، ثم إلى المغرب. حين غادرنا المكان، وقررنا استعمال سيارة أجرة لنعود إلى النزل البدوي، وجدنا أنفسنا إزاء «خطافة» حقيقيين. الثمن مرتفع، «فإما أن تقبل، أو اذهب إلى حال سبيلك». تقدمنا شيئا ما نحو الأمام، حيث سنعثر على سيارة أجرة تقلنا إلى مقر الإقامة، متعبين، لا نطلب شيئا غير النوم. ولأن السائق ضلَّ الطريق، حتى وهو يستعمل، شأنه شأن بقية السائقين، تقنيات الهاتف المحمول لمعرفة المسار، فقد كنا أمام وضع مزعج حقا. فلا أحد منا يتذكر الطريق. ثم إن الظلام دامس لا يترك مجالا للرؤية الواضحة. واحتاج الأمر إلى عودة إلى الطريق السيار لكي يصحح الرجل الاتجاه، ما جعلنا نزيده على ما اتفقنا عليه بعض المال. سُرَّ كثيرا. بل أكثر من ذلك، اعتذر عما رأى أنه خطأ. واتخذ طريقه في الظلام سربا. لكن، هل كنا لننام من فورنا؟ كلا. فقد تطلب أمر الكتابة الكثير. وأذكر جيدا أنني، وقد نمت بعد حين في تلك الليلة، وكنت أستيقظ بين وقت وآخر بفعل التعب وتأثير المباراة، فأفاجأ بالزميل هشام بنثابت وهو لايزال يكتب. في وقت من الأوقات، آلمني ذلك المشهد. أيها الصحافي الذي يقال إنك في سفر، إن سفرك عذاب أليم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ظل بنثابت على حاله تلك إلى أن استيقظت لكي أبدأ حصة للجري في القرية. وجدته يستعد، حينها، لكي ينام بعض الوقت. وكانت النافذة الطويلة التي بجانب سريره تلقي عليه بوابل من أشعة الشمس. سألته: «هل انتهيت؟». قال: «نعم، الحمد لله، وآن لي أن أستريح». قلت، على سبيل البسط: «مفوَّجْ لي مع راسك». ثم غادرت الغرفة الطويلة، التي ينحدر سقفها، مائلا، أكثر كلما تقدمت نحو النافذة. كان الجو في الخارج جميلا، والهدوء مشاعا. تسمع أنفاسك ووجيب القلب. ويصل إليك صوت الحصى وهو يئن تحت قدميك. وتغريك الأعشاب المتناثرة في كل زاوية بالإمعان في النظر. وتطير بك رائحة التراب المبلل بالمطر. وتفتنك تلك الهندسات العجيبة لكل دار. وتكتشف، في لحظة ما، أنك ركضت أكثر من اللازم. يتعين عليك الآن أن تعود. ولم يكن ممكنا أن أرجع دون أشياء تسعفني والشباب في وجبة الفطور. كنت أدرك أن النزل لا يوفر أي وجبة. ودخلت محلا لبيع مواد التغذية مقابل المسجد. انتقيت بعض ما تيسر لي. وحين غادرت، وتوقفت للحظات أحدق في المسجد العجيب، إذا بأحدهم يسلم علي: «السلام عليكم». قلت: «وعليكم السلام ورحمة لله وبركاته». وتصافحنا، وتكلمنا، ولو بدون كلام. بل طلب التقاط صورة بعدما عرف أنني مسلم، وأنني من بلد إمامهم المغربي. ودعا لي بالخير، وأشار إلي إن كنت بحاجة إلى شيء ما تعذر علي في ذلك المكان، وقد فهم، هذه المرة، أنني صحافي جئت لتغطية مباراة الأمس. غير بعيد كانت هناك عجوز وزوجها يضعان سلعة في الطريق. بعض الخضروات والفواكه، وأشياء أخرى، بينها جوارب. تذكرت أنني بحاجة إلى جوربين. كنت ألبس الحذاء الرياضي دونهما في تلك الأثناء. سألت عن الثمن، فقالت العجوز، وهي تتقدم من جانب سيارة قديمة: «30 روبل». أديت الثمن، ثم لبستهما، وعدت ركضا إلى النزل، حيث وجدت الشباب يعودون إلى دنيا الناس من نوم عميق..