جرت العادة أن يكتب الأدباء والمثقفون عن الأشخاص المرموقين، سياسيين ورياضيين، علماء ومثقفين، غير أنه في هذه التجربة نجد أن عبداللطيف وهبي، ابن بيئة سوس بعبق رائحة الأركان، اختار الكتابة على رموز بسيطة وسط الشعب وبخاصة وسط جهة سوس، لها ذلك الحضور الجميل في حياة الناس مقابل غياب كلي في الواجهة العامة التي تغري السياسيين، لما لهذه النماذج الإنسانية البسيطة من قدرة كبيرة على اختزال قيم إنسانية تتجاوز محورية حب الذات. اختلف الكثيرون حول حدود سوس، فالبعض اعتبر حديث الناس باللغة الأمازيغية هي التي ترسم المعالم الجغرافية لسوس، والبعض الآخر حددها بدءا من السفوح الجنوبية للأطلس الكبير بيني وبين سوس علاقة وطيدة لا يمكن وصفها، امتدت من الولادة ثم الطفولة والمراهقة وحتى اليوم، لا أزال أسير عبقها الأركاني، مرورا بفترة انتقالي من سوس إلى الرباط لإتمام دراستي العليا. أعود تارة، وتارة أخرى تجرفني تفاصيل الحياة بالعاصمة، ومازلت كلما عدت إلى سوس، أشعر بأنني أستلهم من جبالها إكسير الحياة، فالله خلقني وسوس صنعتني ورسمت أخلاقي. اختلف الكثيرون حول حدود سوس، فالبعض اعتبر حديث الناس باللغة الأمازيغية هي التي ترسم المعالم الجغرافية لسوس، والبعض الآخر حددها بدءا من السفوح الجنوبية للأطلس الكبير، بجانب “جبل سروى”، لتتجه نحو الجنوب، ثم ترافق مجرى وادي درعة إلى حدود واد نون، غير أن أحدا لا يعلم هل سمي النهر الكبير واد سوس باسم المنطقة أم أن هذه الأخيرة هي التي سميت باسم هذا الوادي. ولكن سوس ستظل سلة المنتجات الفلاحية للمغرب ومن مصادر ثروة البلاد. وحينما قررت أن أترشح للانتخابات سنة 2011 وبدون تفكير مسبق تقريبا، قررت الصعود إلى جبال تالوين واختراق سهول أولاد برحيل، وأمتطي منعرجات إيغرم وأولوز، اخترت بدون تردد أهلي وراء الجبل، رغبتي كانت ملحة في معانقة القرى والمداشر النائية هناك، فالقرار ليس سياسيا فقط، بل عائليا وروحيا كذلك، لارتباط الروح والفؤاد بأهلي ومنطقتي بتالوين ومختلف مداشر ودواوير تارودانت الشمالية في دائرة تشكل لوحة جغرافية طبيعية بتضاريسها الوعرة وامتداداتها الرائعة. من تارودانت إلى تالوين تمر حتما بالقرية الجميلة «أولاد عيسى» المنكمشة التي تخشى من واد يخترق جنباتها، وهي تقاومه بعبق رائحة الليمون والأركان، وبعدها تجد البلدة الصغيرة أو المدينة الفوضوية «أولاد برحيل» التي تتوسع عمرانيا بدون انتباه، حيث يلتقي فيها كل من نزل من الجبل، وبعد قطع مسافة تتجه مباشرة إلى جماعة قروية صغيرة تسمى «سيدي وعزيز»، فتنعرج يسارا لتصادف طريقا يقودك لأزيد من 39 كيلو مترا وسط قمم الجبال وجمال الطبيعة بمحاذاة نهر يتحدى الجبل حتى تصل «أوناين». وإذا استدرت يمينا في اتجاه مباشر تحملك المركبة نحو بلدة «أولوز». هذه القرية التي تتوسع في ذاتها محاولة أن تصعد الجبل بعمرانها فتنخره بشكل عنيد. تواصل الطريق فتصادف جماعة «أساكي» تخبرك برمشة عين أنك اقتربت من دخول بلدة «تالوين» حيث عبق التاريخ الممزوج بالزعفران الحر الأصيل. أما إذا اخترت أن تتعرج متحديا الجبل الذي أفقدته الطبيعة لبوسه، فستجد نفسك في الجماعة الجبلية الخلابة «تسوسفي» تنصهر في طرقات لتتسلل بين الجبال، تارة تعلو وتارة تنخفض. ومن أعلى الهضاب ترى بعض المنازل كأنها تتسلق حجارة الجبال، إنها جماعة «إيغرم» الشاهقة. نقف بالمركبة نتأمل اللوحة الجميلة التي زادها غروب الشمس تألقا ورونقا. يعود بي صديقي للحديث عن استراحتنا السابقة بجماعة «أكادير ملول» ثم يتذكر بحب غريب تناوله طاجين الماعز بزيت الأركان والزعفران الحر الذي يصفه بأنه لا مثيل له في العالم. يستمر حديثنا لينعرج إلى وصف بلدة «تيكوكة» الرائعة التي يتسوق سكانها من السوق الأسبوعي لجماعة «اثنين إذا وكيلال»، واصفا إياها بأنها تعانق الجبل الذي يؤدي إلى «تفنوت» وقمة «توبقال». صديقي المخضرم يعرف هذه المناطق كلها، يحكي كيف كان يتسوق حينما كان شابا، ويصف طرقاتها بدقة كأنه رسم جغرافيتها. وعند رؤيتك لها ينسيك موقع موقعا، فالجمال الطبيعي خلاب وأكثر روعة رغم خطورة الطريق وصعوبة المسالك كأنها عاشقة تتمنع، أهلها في عزلة يجهلون أسبابها، لكن تتغلب عليها وتمحو آثارها طيبوبتهم وكرمهم وفطرة حبهم الأمازيغي. يحتضنونك بحب غريب، خالص وسريرة بيضاء نقية صافية، نساؤهم ورجالهم وأطفالهم وشيوخهم وفقهاؤهم يلاقونك بحب دافئ ينسيك متاعب المسالك والطرقات، يمزجون في انسجام غريب وتلقائي الحب بالبساطة فتغنيك عن زيف المدن المنمقة. استقر الناس هناك مند زمن بعيد في أسفل الجبل، بالقرب من الوديان لحاجتهم إلى الماء الذي يحيي كل شيء. استقر الناس هنا بالقرب من الأنهار وبعض الأراضي الخصبة، والتي نزعت من الجبل بمعول فلاح قاوم الطبيعة. حين تكون قادما من الرباط مرورا بالبيضاء، يكون السير مختلفا حيث الطرق معبدة والعمارات شاهقة. وحين تصل سوس فالوضع مختلف، فالطرق مهترئة بين الجبال والسهول، مسالك وعرة وبيوت الطين البسيطة تواجه حرارة الشمس والمطر بعنفوان يوازي شموخ الرجال والنساء السوسيات. هنا تكتشف أن للمغرب وجهين متناقضين، وجها للمدن وللواجهة، حيث المطارات والسياح والأجانب، ووجها آخر لجبال سوس، حيث الفقر والعوز والتعب وعزة النفس والقناعة، والكثير من المواطنين المغاربة، يتساءلون بألم وحسرة: لماذا لا يتغير الزمن هنا ليتحول معه المكان؟ تواصل مسيرك فتنعطف بك الطريق بعد مركز «أولاد برحيل» يسارا عبر طريق مراكش لتقابلك منطقة جبلية رائعة تدعى «تيزي نتاست» لا تبعد عن الطريق الرئيسية سوى ببضع كيلومترات، ولكن لتصلها لا بد لك من أن تعاني كثيرا، فالمسالك جد وعرة، وضيقة ومحفرة وخطرة بسبب علوها الشاهق. حين تركب السيارة في هذه المسالك الخطرة تتسارع دقات قلبك، ويجف فمك، في حين تتحرك السيارة ببطء شديد وعيناك مشدوهتان صوب الطريق الذي يتسع بالكاد لسيارة واحدة، فمرور سيارتين في وقت واحد من المستحيلات، وعيناك مسمرتان نحو الهاوية وعلى جنبات الطريق بمحاذاة أسفل الجبل ،حيث تتمنى في قرارة نفسك ألا تأتي سيارة مقبلة من الاتجاه المعاكس، وإذا أبصرها السائق من بعيد، ما عليه إلا اختيار نقطة توقف على الطريق في مساحة قد تسمح بمرور تلك السيارة في الاتجاه المقابل، وبعد ذلك تواصل السير. يؤنبك ضميرك ويساورك القلق وأنت تمر بصورة نادرة من طريق يمكن أن تدعى بطريق الموت، فما بالك بالمواطنين في أسفل الجبل الذين يركبونه عدة مرات في اليوم، سائقون مهرة من أصحاب النقل غير المنظم، هم من يحترفون ركوب هذا الطريق، تلك هي الوسيلة الوحيدة لفك العزلة بالمنطقة، تسير هذه السيارات بسرعة محدودة جدا أحيانا لا تتعدى 10 كيلومترات في الساعة ويكون مقابلها ثمنا باهظا يؤديه البعض، والبعض يكون دينا عليه وآخرون بحكم التضامن يعفون من الأداء.