كانت دعوة تنسيقية الأساتذة المتعاقدين إلى تنظيم مسيرة ليلية بالشموع إلى مقر البرلمان، مساء اليوم السبت 23 مارس، كفيلة بأن تجعل الكثير من الأطراف بالدولة تشعل أضواء الاستنفار، وتشرع في التحذير والتهويل. وتحتفظ الذاكرة الجماعية للمغاربة، رغم مرور 54 عاما، بوخز ذكرى الأحداث الدامية التي عرفها المغرب، خاصة مدينة الدارالبيضاء، في مثل هذا اليوم عام 1965. كانت دعوة تنسيقية الأساتذة المتعاقدين إلى تنظيم مسيرة ليلية بالشموع نحو مقر البرلمان، مساء اليوم السبت 23 مارس، كفيلة أن تجعل الكثير من الأطراف بالدولة تشعل أضواء الاستنفار وتشرع في التحذير والتهويل. وتحتفظ الذاكرة الجماعية للمغاربة، رغم مرور 54 عاما، بوخز ذكرى الأحداث الدامية التي عرفها المغرب، خاصة مدينة الدارالبيضاء، في مثل هذا اليوم من عام 1965. قفزت ثورة شعبية عارمة إلى الشارع المغربي من داخل أسوار المدارس، لتخرج الدولة رصاصها القاتل، ويسقط الضحايا مضرجين في دمائهم في الشوارع. فبعد مرور عقد من الزمن تقريبا على استقلال المغرب، كانت الأسر المغربية تبذل الغالي والنفيس في سبيل تعليم أبنائها، معوّلة على المدرسة لتمكّنهم من الارتقاء الاجتماعي. رأى المغاربة حينها في التحاق أزيد من 200 ألف من الشبان بالإدارة، ابتداء من 1956، لخلافة الأوروبيين واليهود المغاربة المتأهبين للرحيل، دليلا مبينا على أن الشهادة التعليمية ضمان للارتقاء الاجتماعي. لكن اكتفاء الدولة الوطنية كان وشيكا، فقد صار عدد الموظّفين المغاربة «المسلمين» 25 ألفا في سنة 1965، أي عشرة أضعاف ما كانوا عليه لحظة الاستقلال، ما دفع بالدولة إلى السعي إلى تعطيل الآلة المدرسية، وهو ما فجّر ثورة دامية كان لها ما بعدها من انعطاف صريح للسلطة نحو الاستبداد المطلق. ففي مارس 1965، صدرت مذكّرة من وزارة التربية الوطنية تنص على الحد من الانتقال إلى السلك الثاني من التعليم الثانوي، فألقت في 22 مارس 1965، في شوارع الدارالبيضاء، بالمئات من التلاميذ الذين خرجوا للاحتجاج، فالتحق بهم تلاميذ الإعدادي يوم 23 مارس، في مظاهرة انضمّ إليها الآلاف من آباء التلاميذ والشبان العاطلين، وسواهم من فقراء أحياء الصفيح. ثم لم تلبث المظاهرات أن انقلبت إلى عصيان، فقد نصبت الحواجز في الدارالبيضاء، وأحرقت الحافلات والأبناك ومخافر الشرطة. واندلعت معارك في الشوارع بين المتظاهرين وقوات الأمن، واتسعت رقعة التمرّد لتعمّ كبريات المدن الأخرى في المملكة. وما كانت تلك الأعمال مجتمعة إلا تعبيرا عن فداحة الانتهاكات التي تراكمت منذ الاستقلال. المذكرة المشؤومة أصدر وزير التربية الوطنية حينها، يوسف بلعباس، يوم 19 فبراير 1965، مذكرة تمنع الشبان الذين تجاوز سنهم 16 سنة من ولوج المدارس الثانوية، وقالت إنه «من الضروري ألا يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي سوى التلاميذ القادرين على متابعة الدراسة في إحدى الشعب المتخصصة في السلك الثاني، وأنه يمكن أن يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي التلاميذ المزدادون عام 1948، أما من تبلغ أعمارهم 16 سنة أو أكثر فلا يمكنهم ولوج السلك الثاني من الثانوي والوصول إلى الباكالوريا». خطوة قرأ فيها الكثير من المغاربة إغلاقا لطريق الترقي الاجتماعي أمامه، فكان ذلك الخروج الجماعي لتلاميذ نحو 13 مؤسسة ثانوية بمدينة الدارالبيضاء، يوم الاثنين 22 مارس، ثم التحق بهم في اليوم الموالي تلاميذ المستويات الدنيا، باعتبارهم المعنيين أساسا بالمذكرة الوزارية. خروج تلاميذي وجد أرضية خصبة في انتظاره، حيث التحق المئات من العمال المطرودين من مصانعهم وسكان دور الصفيح المهمشين، وراحت الجموع الغفيرة تجوب أنحاء الدارالبيضاء، في تحرك لم تجد له الدولة من جواب عنه غير النار. فقد جاء القمع، وكان مبتدؤه يوم 23 مارس، بتولي أوفقير استعادة التحكم في زمام الأمور في المدينة، وكان يقود العمليات شخصيا عبر مروحية. استمر العنف ثلاثة أيام، موقعا مئات القتلى. وشلّت الحياة السياسية أمام عظم العنف، حتى خاطب الحسن الثاني الشعب في 29 مارس 1965، حيث جاء ليلومه ويعنّف البرلمانيين على حدّ سواء: «أقول لكم إنه لا أخطر على أي دولة من الشبيه بالمثقّف، وأنتم أشباه المثقّفين، وليتكم كنتم جهالا». فكان يقدّم في ثنايا كلامه، مفتاح السياسة التربوية التي سيستنّها الدولة لاحقا. القمع والاستبداد كانت العواقب السياسية للحدث في غاية الفداحة، ودخل الملك في محادثات مع المعارضة. واشترط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية حلّ البرلمان، وإجراء انتخابات سابقة لأوانها. فأعلن الملك حالة الاستثناء في 7 يونيو 1965، وجرى حلّ البرلمان بدعوى عدم الكفاءة. وبعيدا عن الكتابات والأدبيات الحزبية والسياسية التي وثقت هذا الحدث، يقدّم كتاب «تاريخ المغرب تحيين وتركيب»، الصادر عن معهد تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، القصة الكاملة للطريقة التي اتبعها الملك الراحل الحسن الثاني بعد تلك الأحداث، لفرض نظام ملكية مطلقة تسود وتحكم وتفرض هيبتها بقوة الحديد والنار، وتزرع بذور الخضوع والطاعة في الذهنية العامة للمغاربة، عبر دفعهم أكثر نحو تقليدانيتهم وطقوسهم العتيقة، بدلا من تركهم يتوجهون نحو التعليم العصري ويمتحون من الأفكار الجديدة. يتوقّف الكتاب في هذه المرحلة التاريخية عند حادثة اختطاف المهدي بنبركة، معتبرا إياها السبب الحقيقي للقطيعة بين الحسن الثاني واليسار، وليس إعلان حالة الاستثناء، وكلاهما وقع بعد أحداث 23 مارس. أكثر من ذلك، يذهب الكتاب إلى أنه «ليس من المؤكد أن حالة الاستثناء قد ترتبت مباشرة على أحداث مارس لسنة 1965. ذلك إن شهرين يفصلان الحدثين عن بعضهما البعض، أولا؛ ثم لأن هناك مفاوضات فعلية جرت بين القصر والاتحاد خلال شهر أبريل من السنة نفسها، كان الهدف منها الوصول إلى تسوية سياسية تمر بالضرورة عبر غرفتي البرلمان، حيث كان الاتحاديون أقلية. ولهذا السبب بالذات لم يشجب الاتحاد قط حالة الاستثناء، فيما انتقدها حزب الاستقلال وعارضها عبد الكريم الخطيب نفسه –وهو إذاك رئيس مجلس النواب- عندما اعتبرها انقلابا على الدستور قد يؤدي إلى القضاء على الديمقراطية». صراع القصر وأوفقير حرص الكتاب على الفصل بين أحداث مارس 1965، وإعلان حالة الاستثناء، معتبرا أن هذه الأخيرة كانت تمهيدا لمرحلة جديدة تنهي تلك التي بدأت مع دستور 1962، وهو ما يوحي باحتمال استعداد الحسن الثاني للدخول في توافق مع معارضته اليسارية. «والملاحظ في سائر الأحوال أنه جرى اختطاف الزعيم اليساري المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر 1965 بباريس، فترتب على ذلك ظهور أزمة دبلوماسية عميقة بين المغرب وفرنسا، وهي أزمة ستستفحل بتوجيه التهمة من لدن القضاء الفرنسي إلى مسؤولين أمنيين مغربيين، هما الجنرال محمد أوفقير والكولونيل أحمد الدليمي. ويعدّ اختطاف بنبركة واختفاؤه قضية لم يقع استجلاؤها بعد. لذلك، فإن وقع هذه القضية على مجرى التاريخ السياسي للمغرب سوف يطول أمده، خاصة أن مسؤولية أجهزة الأمن المغربية فيها شيء ثابت بالنسبة إلى القضاء الفرنسي». قيدوم الصحافة المغربية الذي عاصر تلك الأحداث، مصطفى العلوي، قال، في حوار سابق له مع «أخبار اليوم»، إن إعلان الملك الراحل الحسن الثاني، في خطابه ليوم 13 أبريل 1965، العفو العام في أعقاب حوادث 23 مارس العنيفة من السنة نفسها، وإطلاق سراح قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحلفاء المهدي بنبركة السياسيين، خلّف ردود فعل سلبية وغاضبة لدى بعض المسؤولين عن السلطة، والمستفيدين من الوضعية القائمة، وعلى رأسهم الجنرال أوفقير، وزير الداخلية، «الذي كان قرار العفو تمريغا لأنفه في تراب الإهانة، خصوصا بعد مضي شهر واحد على أحداث مارس؛ كانت هناك أحداث كثيرة تجري في طي الكتمان. وكانت كل الأحداث مقرونة بسؤال: لماذا؟ ولم يكن أحد يعرف الجواب». ويؤكد العلوي أن ما شهدته سنة 1965 من أحداث كبرى رهنت مستقبل المغرب إلى اليوم، يرتبط بسباق محمود جرى حينها بين القصر ووزارة الداخلية في شخص الجنرال أوفقير. سباق يقول العلوي إنه تجسد أساسا في محاولة الحسن الثاني التوصل إلى اتفاق مع المعارضة اليسارية، وذلك «خلف» ظهر أجهزة الجنرال أوفقير، «وقبل أن يعلن الحسن الثاني عفو 13 أبريل 1965، كلف سفيره في باريس وزوج أخته ورجل ثقته والصديق الحميم لعبد القادر بنبركة وشريكه في بعض المشاريع التجارية، الأمير مولاي علي، بأن يحضّر في سرية تامة عودة المهدي بنبركة إلى المغرب، ويدعم رغبته بخطوات كانت مستبعدة، مثل العفو التام». هذا التطوّر السياسي في علاقة الحسن الثاني بالمهدي بنبركة، وتزايد احتمالات تقاربهما، دفع أطرافا عديدة إلى التحرّك والحؤول دون ذلك حسب مصطفى العلوي، أبرزها القوى المرتبطة بالمصالح الفرنسية بالمغرب، وعلى رأسها الجنرال الراحل محمد أوفقير. الكتاب المرجعي الأول الذي أصدره المعهد الملكي للدراسات التاريخية، التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حمل أطروحة مدافعة عن هذه الرواية، مفادها أن الملك الحسن الثاني كان يفاوض اليسار فيما كانت أجهزته تختطف بنبركة.
ترسيم الاستبداد عبر المدرسة شهد مغرب ما بعد 23 مارس 1965 ترسيم الحكم المطلق، بعدما تحوّلت حالة الاستثناء إلى حالة ثابتة، وتعزيز الحرس الملكي بتشكيلة منقولة جوا في مطلع سنة 1966، وجرى توسيع مجال سلطة الجنرال أوفقير بعدما ظل وزيرا للداخلية منذ 1964، وذلك بعدما صدر حكم بالسجن المؤبد في حقه بفرنسا في شهر يونيو 1967. وهكذا دخلت إدارة السكنى والتعمير ضمن اختصاصاته، ثم وُضعت مصحة حساسة سياسيا حينها، هي المصلحة المكلفة بقدماء المحاربين ورجال المقاومة تحت تصرفه أيضا. وبمناسبة عيد الاستقلال للعام 1968، جرت ترقية أوفقير عسكريا ليصبح نائبا فعليا للملك بتعبير الكتاب الجديد، «وهو ما سيزعج منافسيه داخل الجهاز الأمني». وبما أن التعليم والمدرسة كانا أصل تلك الانعطافة، فإن من الإجراءات الخطيرة التي يقول كتاب «تاريخ المغرب تحيين وتركيب» إن الحسن الثاني عمد إليها لتثبيت حكمه، الإقدام على «تجهيل» المغاربة، وتقليص إمكانيات ولوج التعليم العصري، وإضعاف القاعدة الإيديولوجية للمعارضة، مقابل تقوية المكونات التقليدية للثقافة المغربية، وذلك من خلال: – انطلاق عملية «الكتاتيب القرآنية» في أكتوبر 1968؛ – في الإعلام السمعي البصري والصحافة المقربة من الحكم، كجريدة الأنباء، مثّلت القيم والأخلاق التقليدية موضوعا من مواضيع الصدارة؛ – عمل رجال السلطة على تشجيع المواسم، أي المهرجانات المقامة حول الأضرحة؛ – تجمدت نسبة التمدرس طوال ربع قرن من الزمن؛ كما جرى التعامل مع الشق الديني من لدن المؤسسة الملكية كاستراتيجية وقائية في مواجهة الحركات المعارضة المسلحة بإيديولوجيات الدعوة إلى اللائكية نظرا إلى قربها من الشيوعية أو من القومية العربية. «وبحكم انتمائها إلى السُّلّم الخاص بنظرية الحكم في الإسلام، فإن مفهوم البيعة ومفهوم إمارة المؤمنين قد حُيّنا من لدن الملك ضمن هذا الإطار، ثم فُعّل هذا التحيين، سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الخطاب. أما التيارات الإسلامية، فقد أسهم بروزها في دعم هذا النمط ضمن الفضاء السياسي، نظرا إلى التقائها مع المحاولة الرامية إلى طبع النظام بطابع التراثية التقليدية».