هناك ملاحظة، أرى من المهم –لخطورتها- أن أوضحها قبل البدء. لقد نبهت، في مقالي الأخير، إلى أن عددا من منتقدي معاش بنكيران، خصوصا في الجرائد والمواقع والأحزاب المقربة من السلطة، يُحرجون المؤسسة الملكية، من حيث يقصدون إحراج بنكيران، لأن الملك هو من أمر بصرف معاش بنكيران بالطريقة التي صُرف بها. وها أنا أعود، في أقل من أربعة أيام، للتنبيه إلى أن الكثيرين ممن يتظاهرون بالدفاع عن الملك –وهو ليس بحاجة إلى من يدافع عنه- يسيؤون إليه. لقد شاهدنا، من خلال شريط الفيديو الذي نقل أجواء الندوة الحقوقية التي نُسفت في باريس، أن الأشخاص الذين استُقدموا لنسفها، كانوا يهددون من يتحدث عن الملك باغتصاب أمه. فهل أصبحت منهجية «ولد زروال» حالة ثابتة في تعاطي السلطة مع خصومها، سواء تعلق الأمر برئيس حكومة سابق أو بناشطين حقوقيين ومعارضين للدولة؟ لقد التقطت الكاميرات، في مسيرة ولد زروال، كيف كان بعض المتظاهرين يهتفون: «البام.. عاش الملك»، دون أن ينبههم موظفو وأعوان السلطة، الذين كانوا يؤطرون المتظاهرين ويتحركون في المسيرة بوجوه مكشوفة، إلى خطورة إقحام الملك في تلك الحماقة. إنني أدق ناقوس الخطر؛ إقحام الملك في حسابات السلطة الضيقة يسيء إلى الملك، ويضر بصورة المؤسسة الملكية، لذلك، لا يسعني إلا أن أقول، على طريقة الحسن الثاني: «واش الناس ديال السلطة رجعو خفاف.. رجعو دراري.. وصلنا لهاذ الحد؟». أقول قولي هذا وأعود إلى موضوعي. من السبت إلى الاثنين، خطت قضية الصحافي توفيق بوعشرين خطوة واسعة نحو المجتمع الدولي؛ السبت كانت هناك ندوة باريس حول واقع حرية الصحافة بالمغرب، وكان يمكن أن تمر دون أن يلتفت إليها أحد، سوى الأربعين شخصا، أو أقل، ممن حضروها، لكن رغبة من أراد نسفها، وسخَّر المال الوسخ لكراء مرتزقة أفارقة، واقتناء مادة ذات رائحة كريهة لإطلاقها بقاعة المحاضرة، واستقدام برلمانية ومحامٍ معروفين بتحاملهما على بوعشرين، أعطى الندوة إشعاعا كبيرا وصل إلى قصر الإليزيه، ومنه إلى كل أرجاء العالم، بعدما تحدثت الصحافة الدولية، بشكل واسع، عن الموضوع. وشخصيا، أعرف عددا من الحقوقيين الذين حضروا ندوة باريس كان لهم موقف متذبذب من قضية بوعشرين، لكنهم حسموا أمرهم عندما رأوا الثنائي كروط ورحاب «يتحملان مشاق السفر» لحضور ندوة صغيرة في قاعة أصغر بضواحي باريس، كانت ستتطرق إلى موضوع اعتقال الصحافيين بالمغرب، وضمنهم بوعشرين، ورأوا بصمات «ولد زروال» واضحة في نسف الندوة، وتأكدوا أن بوعشرين، من سجنه، يزعج ويحرج السلطة ومشتقاتها من البرلمانيين والمحامين، وأن قضيته سياسية مع الدولة، وأن «حريم التجريم» احترقن، بدورهن، بالنار نفسها التي اكتوى بها بوعشرين. لقد وقفت جمعية وطنية، ذات مصداقية دولية، مثل «AMDH»، على حقيقة الأهداف التي يُسخر لها بعض المحامين، لذلك، طلبت، أخيرا، من دفاعها عدم التنسيق مع الهيني وحاجي وأمثالهما في أحد الملفات التي تنتصب فيها الجمعية طرفا مدنيا. الحدث الثاني الذي أعقب ندوة باريس، هو نشر موقع المفوضية السامية لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة، يوم الاثنين، قرارا طالبت من خلاله السلطات المغربية بالإفراج الفوري عن الصحافي توفيق بوعشرين، وتعويضه عن اعتقاله التعسفي، ومنحه ضمانة رسمية بعدم تعريضه لهذا الاعتداء على حقوقه الدستورية مجددا، ومعاقبة المسؤولين عن الانتهاكات التي تعرض لها. ولعل أهم ما جاء في هذا القرار الأممي، غير المسبوق، هو التأكيد على أن بوعشرين تعرض للاعتقال التعسفي بسبب عمله الصحافي وليس لسبب آخر، لذلك، أحيلت قضيته على المقرر الخاص للأمم المتحدة الذي يُعنى بحرية الرأي وحرية التعبير. إن أهم مرتكزات قرار الأممالمتحدة، بخصوص الاعتقال التعسفي لتوفيق بوعشرين، تتطابق تطابقا تاما مع الدستور المغربي، وكذلك المسطرة الجنائية، خلافا لما تحاول جرائد ومواقع التشهير، المحسوبة على السلطة، تسويقه ضد قرار الأممالمتحدة، وقد جاءت كالتالي: إن الصحافي توفيق بوعشرين معتقل اعتقالا تعسفيا منذ 26 فبراير 2018 لأن الأمر بالإيداع في السجن، الصادر عن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، لا يمكن أن يشكل السند الصحيح للاعتقال، وفقاً لتعريف المادة 608 من المسطرة الجنائية المغربية. كما أن عدم تمكين بوعشرين من عرض قانونية اعتقاله على قاض يعد انتهاكا لحقوقه الدستورية المنصوص عليها في الفصلين 117 و118 من الدستور المغربي، وللمادة التاسعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. لقد لجأ السيد الوكيل العام لدى محكمة النقض إلى حفظ شكاية بوعشرين بالاعتقال التحكمي ضد الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء ونائبه دونما تعليل. كما أن الغرفة الجنائية لدى محكمة النقض لم تقبل النظر في الشكاية المذكورة بدعوى أن الوكيل العام لدى محكمة النقض هو المخول لتلقي الشكاية بالاعتقال التحكمي التي سبق أن قرر حفظها. من ناحية أخرى، فإن حكم المحكمة الدستورية، القاضي بتعذر البت في طعن بوعشرين في عدم دستورية المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية، والتي منحت الامتياز القضائي للوكيل العام للملك ونائبه، والتي جعلت النظر في شكاية الاعتقال التحكمي رهينا بإرادة الوكيل العام لدى محكمة النقض، الذي هو، في الوقت نفسه، رئيس النيابة العامة، بدعوى عدم صدور القانون التنظيمي المنظم لهذا الحق، أقفل بشكل نهائي كل سبل الطعن الوطنية أمام بوعشرين في قانونية اعتقاله. بصدور هذا القرار الأممي تكون قضية بوعشرين قد دخلت منعطفا كبيراً، واتخذت طابعها السياسي الفعلي، بعدما كان يراد تصويرها قضية جنائية طرفاها هما: توفيق بوعشرين، من جهة، ونساء ضحايا مغلوبات على أمرهن من جهة أخرى. لقد أصبحت القضية، الآن، سياسية؛ بين السلطات المغربية، من جهة، والصحافي توفيق بوعشرين، من جهة أخرى. القضاء المغربي أمام قرار أممي، قانوني، واضح، واستياء شعبي واسع، وأصوات حكيمة في الدولة تهمس باستمرار: يجب طي هذا الملف، رفقا، بالأساس، بصورة البلد. فهل يتم الإنصات إلى كل هذه الضمائر في المرحلة الاستئنافية؟ أنا متفائل.