خلال ندوته الصحافية الأخيرة، انتقد والي بنك المغرب بشدة بعض التقارير الصحافية التي تقول إن صندوق النقد الدولي، هو من يفرض على البنك المركزي المغربي سياساته النقدية، وهو محق في ذلك إلى حد ما. فمهما كانت وسائل تلك المؤسسة النقدية الدولية، فلن تستطيع أن تفرض على البنك المركزي لدولة ما، سياسات معينة، بل هناك دول عاكست توصيات صندوق النقد الدولي تماما، ووصلت إلى ما وصلت إليه من نتائج كارثية في بعض الأحيان. وتتمتع الدول في كل الأحوال بكامل الحرية في تطبيق سياساتها النقدية، وفي الانتقال من سياسة إلى سياسة أخرى، حتى من دون أن تأخذ بعين الاعتبار توصيات صندق النقد الدولي، إن لم تكن قد لجأت إلى دعمه أو تدخله في لحظات ما من تاريخها للخروج من أزمة معينة. لكن هذه النقطة بالذات، ليست هي النقطة المستعجلة في أجندة بنك المغرب هذه الأيام، بل المستعجل والأكثر أهمية يتعلق بتوقف عملية تحرير العملة المغربية، التي لم يستطع البنك المركزي الوطني توسيع هامش صرفه بأكثر من 2,5 في المائة، ارتفاعا أو انخفاضا منذ سنة كاملة. ففي نهاية المطاف، اكتشف البنك المركزي ومختلف الفاعلين المعنيين بأن الانتقال من نظام الصرف الثابت المعمول به حاليا، إلى نظام صرف حر ليس عملية يسيرة، بل أكثر من ذلك، فإن بعض شروطها الرئيسة التي، ربما، كانت متوفرة قبل ثلاث سنوات أصبحت الآن منعدمة، وهو ما جعل هذه العملية تتوقف الآن. في الواقع، ليس لوالي بنك المغرب من سلطة لتغيير الشروط الحالية بشروط تساعده في تحرير كامل وشامل للعملة الوطنية، إذ أن الأمر يتجاوز إمكانياته وقدراته. فتحرير الدرهم المغربي توقف لما تراجعت ثقة المواطنين والفاعلين الاقتصاديين في جدية الإصلاحات السياسية التي انخرط فيها المغرب بعد 2011، بعد بضعة سنوات فقط، من محاولات الإصلاح السياسي الجدي. ولما توقفت عجلة الإصلاح السياسي والدمقرطة، أصبحت الإصلاحات الاقتصادية بدورها هدفا بعيد المنال. إذا تأملنا وضع المغرب بين سنتي 2011 و2016، بعد وضع دستور جديد للبلاد، في جوء يطبعه قليل من التفاؤل رغم كل التحديات، سنلاحظ أن الإصلاحات الاقتصادية التي تم تنفيذها كانت مهمة وهيكلية وضرورية، بينما تراجعت وتيرة الإصلاحات الاقتصادية لما بدأ قوس الإصلاح السياسي يضيق والأمل في مستقبل أفضل يخفت والثقة في المؤسسات السياسية والاقتصادية تتراجع، وهذا يعطينا درسا مهما حول العلاقة الوطيدة بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، فالأول يجر معه الثاني، سواء إلى أعلى أو إلى أسفل. تؤكد الحالة المغربية الحالية خلال السنوات الأخيرة مرة أخرى، قصور ومحدودية المقاربة التنموية التي يعد السوسيولوجي وعالم السياسة الأمريكية، سيمور مارتن ليبست (1922-2006) أحد روادها، والتي تدّعي أن حكومة تشرف على برامج تنموية بعيدة المدى، سينتهي بها المطاف في أن تجلب الديمقراطية والحرية السياسية للمجتمع. فيما تؤكد التجربة المغربية، خلال الفترة القريبة الماضية، أن المقاربة المؤسساتية التي تؤكد أن الإصلاحات السياسية تجلب الرخاء وتتولى تمتين المؤسسات السياسية والاقتصادية، هي المقاربة الأمثل لإصلاح الدولة والمجتمع في المغرب. يشكل الجدل بين أنصار كل مقاربة من المقاربتين العامل الذي يشق صف الاقتصاديين إلى مجموعتين فكريتين متصارعتين، بين من يرى أن الإصلاح السياسي أولى من الإصلاح الاقتصادي، وبين من يرى عكس ذلك. وفي حالتنا، إذا نظرنا قليلا إلى الخلف، فنستطيع بسهولة أن نحدد المقاربة المناسبة لازدهار البلد وتقدمه واستقراره.