أعادت الأغنية الأخيرة للعونيات “زيد آ الملك زيد زيد” الحديث عن قوة هذا النوع من الفن الشعبي، ودوره في معالجة القضايا المرتبطة بما هو اجتماعي وسياسي، كما أعادت الأغنية إلى الأذهان نماذج لفنانات العيطة اللائي قاومن بفنهن جبروت السلطة بكلمات ومقاطع موسيقية كلفت بعضهن حياتهن، فيما تعرضت أخريات للسجن والتهديد والاعتداء. على مر التاريخ المغربي ارتبط فن العيطة بالقبيلة، فنجد لكل جهة لونها الموسيقي الخاص بها، إذ هنالك العيطة المرساوية بالبيضاء، والعيطة الجبلية المرتبطة بمناطق الشمال والعيطة الحوزية بمراكش وضواحيها، والعيطة الملالية والحصباوية والزعرية وغيرها من العيوط المرتبطة بكل جهة على حدة. وشكلت فترة الاستعمار أوج هذا النوع الموسيقي، إذ جرى توظيف العيطة كشكل من أشكال المقاومة ضد المحتل وتم تضمينه رموزا وكلمات تحث على المقاومة لا يفهمها إلا أصحاب الأرض، وهو ما دفع بالمستعمر الفرنسي حينها إلى محاربة عدد من الفنانين ومراقبتهم، كما هو حال الحاجة الحمداوية التي سجنت بفرنسا بسبب أغانيها. من أبرز فنانات العيطة اللائي خلدن اسمهن في تاريخ هذا الفن بحروف من دم، نجد الشيخة “خربوشة” أو حادة الزيدية. والتي ارتبطت قصتها بالقائد المتجبر عيسى بنعمر العبدي، الذي يعتبر من أقوى القيّاد الذين عرفهم المغرب، قوته وسلطته وجدت مقاومة من الفنانة خربوشة بسلاح الكلمة والهجاء، وهو ما دفعت ثمنه حياتها. ومن بين ما جاء في مقاطعها الغنائية عن بنعيسى قولها “سير أعيسى بن عمر.. وكّالْ الجيفة قْتّال خوتو.. ومحلل الحرام.. سير عمَّر الظالم ما يروح سالم.. وعمَّر العلفة.. ما تزيد بلا علام ورا حلفت الجمعة مع الثلاثْ.. يا عويسة فيك لا بقاتْ”، كلمات لم يتحملها القائد عيسى بنعمر ما دفعه إلى تصفيتها. حكاية خربوشة، أو حادة الزيدية أو الزيدية، وهي الأسماء التي أطلقت عليها، ليست سوى تجسيد لكفاح امرأة عبر كلماتها ضد الظلم الذي تعرض له قومها، لتخلدها الذاكرة الشعبية كواحدة من أبرز رموز الصمود ضد قائد متسلط. ارتباط العيطة بالأرض وبالقبيلة جعله في مرات عديدة مرآة تعكس ما يعتمل داخل المجتمع من قضايا ومشاكل وهموم الناس، إذ يوجد العديد من الشيوخ والشيخات الذين حاولوا محاكاة هموم الناس “بالعيوط”، وهو ما يعتبر طبيعيا جدا في نظر الباحث في فن العيطة، نسيم حداد، الذي قال في تصريح ل “أخبار اليوم”: “من الطبيعي جدا أن يكون فن العيطة والفن عموما، يحاكي المشاكل وهموم المجتمع وأفراحه، وهذا هو الهدف الأساسي من الفن، “خصوصا الفن الشعبي والعيطة التي تعتبر ممارسة سلمية عبر الزمن، وكانت دائما تحكي الهموم والأفراح والأحزان في المجتمع المغربي”. واعتبر حداد أنه “في فترات مختلفة من تاريخ المغرب، كانت هنالك عدة نصوص تحاكي الحياة الاجتماعية الخاصة بكل مرحلة”، مضيفا “أن قوة هذا النوع من الفن تكمن في كونه أكثر نفاذا إلى نفسية المستمع وأكثر تأثيرا، فخلال مرحلة الاستعمار مثلا، نجد أن عددا من الأبيات الشعرية التي جاءت في هذا النسق كانت توظف من أجل رفع همم المغاربة وحثهم على النضال، كما كانت توظف، أيضا، من أجل إضعاف شأن شخصية معينة، والفن الشعبي في المغرب يملك قوة تأثير كبيرة، وهي قوة لا يستهان بها”. وبحسب الباحث في فن العيطة، فإن “قوة هذا الفن في زماننا اليوم، تراجعت نوعا ما مقارنة مع الماضي، وأرجع السبب في ذلك إلى تغير نمط الحياة الاجتماعية، ففي الماضي لم تكن هنالك وسائل إعلام منتشرة بالقوة التي عليها اليوم، كما لم تكن هنالك وسائل التواصل، فالطريقة الوحيدة التي كانت متوفرة للتواصل ونقل الأخبار وغيرها هي الفن”. وأردف نسيم حداد بالقول: “اليوم، اهتمامات المجتمع أصبحت متعددة ومختلفة، والفن لم يعد يجد مكانه وسط هذه الاهتمامات الكبيرة”. وحمَّل نسيم حداد المسؤولية، أيضا، في تراجع قوة الفن إلى ما أصبح ينتج اليوم، من فن وهو إنتاج ضعيف ورديء بحسبه، “والمستوى الفني لم يعد بالمستوى ذاته، الذي كان عليه سابقا”. من جهته، اعتبر احساين مامون، الباحث في علم الاجتماع، في تصريح ل “أخبار اليوم” أن “الفن في الأصل هو رسالة اجتماعية، بمعنى أنه نابع من الواقع، وأي مجتمع يمكن قراءته من خلال الأغاني التي توظف فيه”. وأكد المامون أن محاكاة هموم وقضايا المجتمع وتناول القضايا السياسية من الزاوية الفنية تعود إلى أن الفن يعتبر متنفسا للتعبير عن هموم الشعب وقضاياه الاجتماعية والاقتصادية”. وأضاف المامون أن أغنية العونيات تعود بالفن إلى رسالته الحقيقية، “على اعتبار أنه نمط شعبي يوظف موسيقى شعبية وألفاظا نعبر بها يوميا”، موضحا أن قوة أغنية العونيات تكمن في اللغة البسيطة والموسيقى البسيطة والشعبية، كما تكمن قوتها في استهدافها لجميع الشرائح الاجتماعية، لأن الخطاب كلما كان بسيطا واستعمل اللغة المتداولة، كلما كانت له قوة أكثر، وسهولة أكبر في التداول والتقاسم، وبالتالي فمثل هذه الأغاني تشكل صوتا لمن لا صوت له”، يردف المامون. البحث في تاريخ فن العيطة ليس بالمهمة السهلة، نظرا إلى عدم توفر المعطيات اللازمة حول عدد من الأعمال وغيابها في بعض الحالات، والمشكل يجد تفسيره في كون هذا الفن ينتمي إلى التراث الشفهي، إذ إن عددا من الشيخات والشيوخ لم يعملوا على توثيق إنتاجاتهم إلا ما نذر. وفي هذا الصدد، عمد إبراهيم المزند، الباحث في فن العيطة وصاحب “أنطولوجيا العيطة”، إلى إصدار مؤلف بالعربية والفرنسية يحتوي على مختلف مشارب وأنواع فن العيطة، ويوثق لأبرز إبداعات فناني العيطة. وفي حوار له مع “أخبار اليوم” قال المزند، “إن هذا النوع الموسيقي يسير نحو الاندثار، نظرا إلى تغير الأنماط الموسيقية والتطور التكنولوجي الذي يُبعد فئة الشباب عن هذا الإرث الفني”. وبالتالي، وجب، حسب رأي المزند، “أن يجري تشجيع الشباب على إنجاز بحوث في فن العيطة وتشجيع الموسيقيين على الإقبال على هذا النوع الموسيقي، كما يجب على كل جهة أن تعمل على توثيق إرثها الموسيقي من فن العيطة”.