من المنتظر أن تمثل انتخابات البرلمان الأوروبي، المقرر إجراؤها في ماي من العام المقبل، اختبارا حاسما للاتجاهات السياسية القائمة بالقارة، وحركيات الصراع بين أحزابها، والمزاج الانتخابي العام للناخبين بالقارة. في تحليل للتوقعات والنتائج المرتقب أن تفرزها هذه الاستحقاقات، التي تأتي في ظرف تنتعش فيه أحزاب اليمين وخطابات الشعبوية، اعتبرت دراسة تحليلية لوحدة الأبحاث وتحليل السياسات، التابعة لمجموعة «ذي إيكونوميست» البريطانية، أن نتائج هذه الانتخابات ستكون، إلى حد ما، مرآة عاكسة لمجريات الأحداث في الساحات السياسية الوطنية لكل دولة. واعتبرت الورقة التحليلية أن نتائج هذه الانتخابات ستفرز مزيدا من التشرذم بالخريطة السياسية الأوروبية، مع ظهور اصطفافات جديدة داخل المؤسسة التشريعية للاتحاد، كما سترسخ نهاية الثنائية القطبية بين اليمين واليسار، مع توقع اتجاه أصوات الناخبين إلى أحزاب تقدم نفسها «وسطية» وإلى أحزاب اليمين. وقد وصفت الورقة هذه الانتخابات ب«التاريخية» لأسباب عديدة، في مقدمتها أنها ستكون أول انتخابات تنظم بعد خروج دولة عضو من دائرة الاتحاد الأوروبي، أي بريطانيا، وأيضا لأنها ستعقب سلسلة من الاستحقاقات الانتخابية التي جرت بالدول الأعضاء، والتي حققت فيها أحزاب اليمين والأحزاب المناهضة للمشروع الأوروبي أفضل إنجازاتها الانتخابية. كما تأتي هذه الانتخابات بعد سنة من النقاشات الساخنة حول وجهة المشروع الأوروبي، وهي النقاشات التي كشفت مدى الانقسامات التي تخترق بلدان الاتحاد. ويرى معدو الورقة التحليلية أن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي ستفرز مزيدا من التشرذم السياسي، وستعكس الاتجاهات المسجلة في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، وهي الاتجاهات التي تمثلت –منذ الانتخابات الرئاسية بفرنسا عام 2017 وصولا إلى الاقتراع السويدي في 2018- في سقوط نظام تناوب حزبين على الحكم، وتنامي دعم الناخبين الأحزاب المتطرفة وأحزاب الوسط. وقد غذت مجموعة من العوامل هذه الاتجاهات أو الاختيارات الانتخابية، وفقا لتحليل «ذي إيكونوميست»، من أبرزها «تراجع التصويت الطبقي، والهيمنة المتنامية للقضايا السوسيو-ثقافية على نظيراتها السوسيو-اقتصادية، واتجاه الأحزاب التقليدية نحو الوسط (مخلفة فراغا في أقصى اليمين واليسار)، وتنامي الشعور بالقلق نتيجة التحولات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالاضطراب التكنولوجي والعولمة». ويرى تحليل وحدة الأبحاث البريطانية أن أحزاب اليمين ضغطت بقوة على الطبقة الس ياسية التقليدية من أجل التعاطي مع قضايا الهوية الوطنية والهجرة والاندماج، بعدما شهدت ارتفاعا في الأصوات الداعمة لها بكل من فرنسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا والسويد. من جهة أخرى، اعتبرت الدراسة أن الارتفاع المسجل في شعبية الأحزاب المناهضة للمشروع الأوروبي، والحضور المتنامي لهذه الأحزاب في البرلمان الأوروبي، لن يشكل أي تهديد على المشروع الأوروبي. وعزت ذلك إلى التراجع الكبير في نبرة الصراع التي كانت هذه الأحزاب تتبناها خلال السنوات الأربع الماضية، وبالنظر إلى الانقسامات التي تخترق هذه الأحزاب نفسها، والتي تحول دون تشكيلها جبهة موحدة في مواجهة أنصار الوحدة الأوروبية. كما عزت عدم تأثير الأصوات المعادية للمشروع الأوروبي إلى كون ميزان القوى داخل البرلمان الأوروبي سيظل راجحا لصالح المجموعات المناصرة للاتحاد الأوروبي، والتي يرتقب، وفقا ل«ذي إيكونوميست»، أن تؤمّن 50 في المائة من مقاعد المؤسسة التشريعية الأوروبية رغم المنحى التراجعي لحصتها من الأصوات والمسجل خلال السنوات الأخيرة. أما على صعيد التحالفات السياسية، فتوقعت «ذي إيكونوميست» أن يدور الصراع السياسي داخل البرلمان الأوروبي بين ثلاث قوى رئيسة؛ الأولى تتمثل في «حزب الشعب الأوروبي» والثانية في «التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين»، والثالثة تهم التحالف الذي يجمع بين حزب «حركة الجمهورية إلى الأمام» الفرنسية و«تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا». وترى الورقة التحليلية أن تحالف حزب الرئيس، إيمانويل ماكرون، مع الحركات الليبرالية بالاتحاد يعد من ملامح التشتت السياسي الذي سيصعّب تشكيل التحالفات ورسم السياسات، كما سينعكس سلبا على وتيرة العمل التشريعي، وقد يؤثر بقوة أيضا على مسار المصادقة على ميزانية الاتحاد برسم 2021-2027. وبخصوص تأثير قرار الرحيل المعلن للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عن المشهد السياسي الألماني، استبعد تقرير وحدة أبحاث «ذي إيكونوميست» أن تكون لهذا القرار أي انعكاسات على مواقف ألمانيا من المشاريع المسطرة داخل الاتحاد، مبرزا أن المتنافسين الجدد في قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، «قد تكون لهم خطط مختلفة بالنسبة إلى الحزب، لكن ليس بالنسبة إلى أوروبا». وكانت ميركل قد أعلنت أنها قررت الانسحاب من قيادة الحزب الحاكم في ألمانيا في دجنبر 2018، معبرة في الوقت ذاته عن رغبتها في الاستمرار في منصب المستشارية إلى غاية الانتخابات الفدرالية لعام 2021. وتأتي انتخابات البرلمان الأوروبي في ظرف سياسي خاص أوروبيا ودوليا، يتميز باهتزاز الثقة في المؤسسات والأحزاب التقليدية، وارتفاع أسهم الأحزاب الشعبوية واليمينية في العالم. وكانت دراسة سياسية أخرى، أصدرتها صحيفة «ذا غادريان»، حاولت قراءة ما يحمله هذا الاستحقاق الأوروبي. وحاولت الدراسة، التي أنجزها علماء سياسة لفائدة الصحيفة، رسم صورة للمسارات المختلفة للأحزاب اليمينية الشعبوية وزعمائها، بينهم رئيس وزراء هنغاريا، فيكتور أوروبان، والإيطالي ماتيو سالفيني، الذي حقق أكبر نسبة نجاح خلال السنوات الماضية، ولأحزاب اليسار الشعبوية التي انتهت بسرعة في أعقاب الأزمة المالية، وأخفقت في تأمين مقعد في حكومات كل دول القارة، باستثناء اليونان. وتبرز الدراسة كيف ضاعفت الأحزاب الشعبوية قاعدتها الانتخابية أزيد من ثلاث مرات خلال العشرين عاما الماضية، مؤمّنة ما يكفي من الأصوات لوضع قادتها في المناصب الحكومية بأحد عشر بلدا، متحدية النظام السياسي القائم بباقي القارة الأوروبية. وتظهر المعطيات أن الشعبوية بدأت تعرف تناميا منذ 1998، على أقل تقدير، «فقبل عقدين، كانت الأحزاب الشعبوية قوة هامشية تمثل 7 في المائة من الأصوات على طول القارة. أما خلال الانتخابات الوطنية الأخيرة، فقد صار صوت من كل أربعة أصوات يذهب إلى حزب شعبوي».