كارلوس غصن اللبناني الأصل هو عبقري عالمي في إنقاذ الشركات الكبرى من الإفلاس، عبر إتقانه المثالي خطة تخفيض تكلفة الإنتاج. ويكمن سر نجاح كارلوس في ابتكاره نهجا جديدا في تسيير المقاولات يرتكز على استعمال الخصوصية الثقافية في رفع المردودية. الرجل ليس من المديرين العاديين، بل هو مدرسة لها نظرياتها في مهارات القيادة، وأنتجت مفاهيم جديدة في التدبير المقاولاتي. هو الآن معتقل في اليابان، ويواجه تهم التهرب الضريبي والاختلاس. فمن يكون هذا الرجل الذي يتابع العالم برحابته قضيته دقيقة بدقيقة؟ كانت البداية من الشركة العالمية ميشلان المتخصصة في عجلات السيارات؛ بعدما أنهى كارلوس دراسته الثانوية في بيروت، انتقل إلى فرنسا ليتابع تكوينه في الأقسام التحضيرية، ثم التحق بمدرسة بولي تكنيك ثم بمدرسة القناطر بباريس ليحصل على دبلوم مهندس من كلتا المدرستين. مباشرة بعد تخرجه في 1978، سيلتحق كارلوس غصن بالشركة الأولى في أوروبا المتخصصة في صناعة العجلات، العملاق ميشلان. بعد 3 سنوات فقط من العمل ستسند الشركة إلى الرجل منصب مدير أحد أكبر معاملها في أوروبا. وفي سنة 1985، ستسند الشركة إلى غصن مهمة تقويم وضعية فرع الشركة في أمريكا اللاتينية الموجود في البرازيل، والذي يعاني صعوبات مرتبطة بوضع اقتصادي متردٍّ في المنطقة، ومعدل كبير وصل إليه التضخم. هذه المسؤولية ستشكل تحولا كبيرا في مستقبل كارلوس المهني، وستمكنه من إبراز مهاراته غير العادية في الريادة وفي التدبير المقاولاتي. فعكس السياسة التدبيرية التي تنهجها الشركات الكبرى في هذه الحالات، سيقوم كارلوس بنهج سياسة تدبيرية شكلت ثورة في المفهوم المقاولاتي لتدبير الأزمات. بديهة كارلوس التدبيرية قادته في البداية إلى نهج سياسة قاسية لتقليص كلفة الإنتاج، وذلك بإغلاق معملين وتقليص اليد العاملة. بديهة كارلوس لم تقف عند هذا الحد، حيث لاحظ عبقري حل الأزمات أن التسيير الصارم وعوائق ذات طابع ثقافي هي كذلك تشكل فرملة لتطوير فاعلية الشركة، وليس الوضعية الاقتصادية التي تمر منها بلدان أمريكا اللاتينية فحسب. وهنا تكمن عصارة العبقرية التي يتمتع بها الرجل. ولمعالجة الإشكالية، اهتدى غصن إلى طريقة شكلت ثورة في الفكر المقاولاتي. أنشأ لجانا خاصة بالتسيير مشكلة بشكل أفقي من مسؤولي الشركة، تفاديا للنهج العمودي الذي يجمع بين الرئيس والمرؤوس، لأن كارلوس يعتقد أن هذا النهج الكلاسيكي في التسيير يحد من فاعلية الكفاءات التي تشتغل بها الشركة. كما أن الرجل حرص على أن تكون هذه اللجان المكلفة بالتسيير مشكلة من جميع الجنسيات الموجودة في الشركة، وذلك لإعطاء البعد الثقافي دوره في عملية النهوض بأوضاع هذه الأخيرة. حدد كارلوس مهمة هذه اللجان في تحديد الممارسات الجيدة للقيام بعمليات التصنيع. إدخال التعدد الثقافي في مجال التسيير جعل فرع ميشلان في أمريكا اللاتينية يستعيد عافيته ويطور مردوديته في ظرف سنتين فقط. ما قام به كارلوس في فرع ميشلان في أمريكا اللاتينية، وما حققه من نتائج مبهرة في ظرف وجيز، شكل الدعامة الأساسية لنهج غصن في التسيير المعتمد على التنوع الثقافي. بعدما حققه كارلوس غصن في أمريكا اللاتينية، سيعين عام 1989 مديرا عاما لأكبر فروع الشركة المتمثل في أمريكا الشمالية. طريقة غصن في التسيير ستمكنه من تحقيق نتائج مبهرة في أمريكا الشمالية. وفي الوقت الذي كانت فيه الشركة الفرنسية تعاني ضعفا في تنافسيتها وتناقصا متصاعدا في نسبة مبيعاتها في السوق، نتيجة طبيعية لتضخم ديونها نتيجة انصهارها مع شركة «يوني روايال» في محاولة لإنقاذ وضعها الدولي، سيتمكن الرجل من ضم إحدى الشركات الأمريكية العملاقة، التي يعود تأسيسها إلى 1870، إلى فرع ميشلان في أمريكا الشمالية، وهو ما سيعزز مكانة ميشلان لتصبح المُصنع العالمي رقم 1 في صناعة العجلات. بعد ميشلان، ستستنجد شركة رونو بكارلوس غصن لإخراج المجموعة من أزمتها. في 1996، دخل غصن مجموعة الشركة الفرنسية رونو، وعُين في منصب المدير العام المساعد. تعيين غصن في هذا المنصب يأتي بعدما بدأت المجموعة تفقد حصتها من السوق بشكل تصاعدي، وتردت نتائجها، حيث بلغ العجز حوالي 6 ملايير فرنك فرنسي آنذاك. شرع كارلوس غصن، العبقري في مثل هذه الحالات، في تنفيذ برنامج «فرعوني» في إعادة هيكلة المجموعة باعتماد طريقته في تقليص تكاليف الإنتاج، وضبط معادلة «ما هو مطلوب والموارد الضرورية له». كما أن بديهته أملت عليه تغييرا جذريا في استراتيجية المجموعة في التصنيع، وذلك بزيادة معايير الرفاهية في جميع سيارات رونو. وكما في شركة ميشلان، بعد سنوات عجاف من العجز المتواصل، ستحقق شركة رونو أرباحا فاقت 4،5 ملايير فرنك فرنسي في 1997. ليس هذا فحسب، فالرجل سيتمكن من عقد استراتيجية مع الفاعل السويدي فولفو، المتخصص في معدات الوزن الثقيل (حافلات، شاحنات…)، وذلك لتقوية مركز الشركة العالمي، وهو الأمر الذي عجزت عنه إدارة الشركة في 1993. غصن في شركة نيسان اليابانية: تقويم وضعية شركة على حافة الإفلاس. في 1999، سيشرف كارلوس غصن على اقتناء مجموعة رونو 8،36 % من رأسمال الشركة اليابانية نيسان. في هذه الفترة كانت نيسان تعاني صعوبات مالية كبيرة تهدد بإفلاسها. وتراكمت الديون لتبلغ أكثر من 20 مليار دولار. المستثمرون والمحللون الماليون وكذلك الفاعلون في مجال تصنيع السيارات، كلهم مرتابون من إمكانية تقويم وضعية شركة نيسان. هذا التشاؤم كان محددا في فشل جميع المفاوضات مع الفاعلين في القطاع على رأسهم فورد وكرايزلر. لكن كارلوس غصن سيجري عكس التيار، ولن يأبه للمشككين في إنقاذ نيسان، وسيدفع في اتجاه تفعيل الشراكة الاستراتيجية مع شريك يقف على حافة الإفلاس. بل أكثر من هذا، سيشرف شخصيا على إعادة تأهيل الشركة. هكذا سيُعين غصن رئيسا مديرا عاما لنيسان مع الاحتفاظ بمسؤوليته في شركة رونو، وسيستقر في اليابان ليشرف على مشروع رونو-نيسان شخصيا. في هذه الفترة كان عمل الرجل مقسما بين العمل في شركة نيسان ومجموعة رونو وفرع رونو في البرازيل حيث لايزال يشرف عليه. هكذا كان وقت غصن كل أسبوع مقسما بين اليابانفرنساوالبرازيل. رغم تنقله أسبوعيا بين اليابانوفرنساوالبرازيل، سيشرع غصن في تنفيذ برنامجه لتقويم نيسان الذي أعده قبل التوقيع على عقد شراء رونو حصة من رأسمال الشركة، والذي أعلنه رسميا في 1999. يتشكل البرنامج من ثلاثة محاور؛ أولا، محور الأهداف: العودة إلى الربحية في سنة 2000، تحقيق هامش العمليات بمعدل 5،4 % من رقم المعاملات، وأخيرا تقليص المديونية ب50 % في أفق نهاية 2002. ثانيا، محور البرنامج العملي؛ حدد غصن برنامجه في النقاط التالية: إشراك جميع أجراء نيسان في مجموعات عمل حدد لها كارلوس مدة 3 أشهر لإيجاد الحلول المناسبة للممارسات الخاطئة والمكلفة؛ وضع حد للعمل في النقطة نفسها مدى الحياة باعتماد سياسة جديدة في الفاعلية الإنتاجية لم يألفها المجتمع الياباني؛ تخفيض اليد العاملة بنسبة 14 %، إغلاق 5 معامل في اليابان، والتخلي عن فرع نيسان في مجال الفضاء؛ وأخيرا، وبهدف نقص التكلفة، وضع غصن حدا للنظام التقليدي المعتمَد في اليابان بخصوص العلاقة مع شبكة المجهزين المعتمدين، وذلك بتقليص وترشيد تلك الشبكة، رغم ما يمكن أن تجلب له العملية من انتقادات لاذعة من قبل اليابانيين. ثالثا، محور تحصين نجاح الخطة: وعد كارلوس غصن بالاستقالة هو وجميع أعضاء مجلس إدارة نيسان إذا عجز عن تحقيق أهداف خطة الإنقاذ. هذه الخطة التي شكلت ثورة حقيقية في عالم المقاولة، جعلت اليابانيين يطلقون على غصن لقب rellik tsoc، أي قاتل التكلفة. لم تتأخر نتائج الخطة، وكانت مبهرة وفاقت كل التوقعات. الإشراف الشخصي لكارلوس غصن على خطته جعل النتائج لا تتأخر في إعلان نفسها؛ تقليص المديونية، وجعل الشركة تحيا من جديد في ظرف لم يتجاوز 3 سنوات رغم ظرفية اقتصادية عالمية غير مواتية -في 2000 الشركة تعلن نتيجة الاستغلال بارتفاع يصل إلى 134% ونتيجة صافية تبلغ 170 مليار يَن ياباني– في 2003 سددت نيسان جميع ديونها وارتفعت النتيجة الصافية ب33%. نجاح خطة غصن جعله يُتبعها بخطة ثانية في 2002، من بين أهدافها بيع مليون سيارة. هكذا ستصبح نيسان من الشركات العالمية الأكثر ربحية، وستستطيع في 2004 بيع 4،3 ملايين سيارة، ثلث الرقم بيع في الولاياتالمتحدةالأمريكية وربح يصل إلى 8،3 ملايير يورو. وسيفتح له نجاحه عالما من المسؤوليات بلا حدود. في 2013 سيعيَن كارلوس غضن رئيسا لمجلس إدارة المجموعة الروسية أفتو فاز– بعد شراء نيسان 34 % من أسهم ميتسوبيشي، وسيعين غصن رئيسا لمجلس إدارة المجموعة.