لم يكن مساء يوم الجمعة 23 فبراير 2018، يوما عاديا بالنسبة إلى الصحافي توفيق بوعشرين وجريدة “أخبار اليوم”. فبعد يوم كامل من العمل وإرسال الجريدة إلى المطبعة، غادر مدير نشر الجريدة مقر عمله في الطابق السابع عشر بعمارة الأحباس بشارع الجيش الملكي عبر المصعد متوجها إلى سيارته، لكنه فوجئ بعدد من رجال الأمن يعترضونه عند محاولته الخروج من المصعد. اقتحام غير عادل العشرات من رجال الشرطة بلباس مدني أعادوه من مصعد العمارة إلى مكتبه في الطابق 17. كان بوعشرين يعرف مسبقا أنه مستهدف بسبب كتاباته، لكنه لم يتصور أنه سيتابع بتهم لم تخطر له على بال. ورغم هول الصدمة، فقد تعامل بأريحية مع عناصر الشرطة الذين طلبوا منه العودة إلى مكتبه. وحسب شهود عيان، فإن العشرات من أفراد الفرقة الوطنية بحضور رئيسهم تمت تعبئتهم لهذه القضية. بعضهم طوقوا مدخل العمارة، في ما آخرون، وقفوا أمام باب مقر الجريدة، فيما اصطحب عدد منهم بوعشرين إلى داخل مكاتب الجريدة. في البداية طلبوا منه أن يريهم المكاتب، ولم يكن حينها يعلم التهم الموجهة إليه، كما لم يعرف ما يخبئون له، فانتقل معهم عبر المكاتب التي كانت شبه فارغة لأن معظم الصحافيين غادروا، فيما بقي بضعة عناصر أمنية في مكتبه، وبعد فترة تمت إعادته إلى مكتبه، ومواجهته بمعدات إلكترونية، كانت موضوعة خلف تلفزيون في المكتب. استغرب بوعشرين من وجود هذه المعدات في مكتبه، ونفى بشدة علاقته بها، والتي كانت غير متصلة بالكهرباء. كانت أساسا عبارة عن كاميرا، وجهاز تسجيل DVR. قررت الفرقة الوطنية تحرير محضر بالمحجوزات، لكن بوعشرين رفض التوقيع عليه. لم يكن حاضرا رفقة عناصر الشرطة عند العثور على تلك المعدات، وباغتوه في غيابه. إلى حدود تلك اللحظة لم يكن بوعشرين يعرف التهم المنسوبة إليه، فتم نقله إلى مقر الفرقة الوطنية بالدار لبيضاء، تحت ضغط شديد، وتمت مواجهته بالشكايات المزعومة الموجهة ضده بالاغتصاب، كما تمت مواجهته بفيديوهات قيل إنها مسجلة في مكتبه وتم العثور عليها خلال الحجز، وتتعلق بعلاقات جنسية مع عدد من النساء. بوعشرين رفض الاعتراف بالفيديوهات أو مشاهدتها، قائلا للشرطة إنها لا تخصه، وإنما تخص الجهة التي صنعتها. خارج غرفة التحقيق، الذي استمر لساعات ليلا، وتواصل خلال اليوم الموالي، كان الرأي العام لا يعرف سبب اعتقال صحافي معروف. كان الأمر بمثابة صدمة، خاصة أنه لم يصدر أي بلاغ فوري يوضح التهم الموجهة إليه، ما جعل الحقوقيين ينتقدون اعتقال شخص دون الكشف عن التهم الموجهة له. وبعد ساعات أصدرت النيابة العامة بلاغا جاء فيه “بناء على شكايات توصلت بها النيابة العامة أمرت بإجراء بحث قضائي مع السيد توفيق بوعشرين، كلفت به الفرقة الوطنية للشرطة القضائية”، و”من أجل ضمان مصلحة البحث وحفاظا على سريته وصونا لقرينة البراءة، فإنه يتعذر في هذه المرحلة الإفصاح عن موضوع الشكايات”. هذا البلاغ زاد الوضع غموضا. فكيف يتم اعتقال صحافي معروف من طرف العشرات من رجال الأمن دون الكشف عن التهمة، وهل مجرد وجود شكايات يتطلب تعبئة هذا العدد من رجال الفرقة الوطنية، والتي تتدخل عادة في القضايا الكبرى مثل جرائم الأموال، وقضايا أمن الدولة والمخدرات؟ نسج خيوط الخدعة في يوم السبت الموالي، وقع تطور جديد، تمثل في شروع الفرقة الوطنية في استدعاء مجموعة من النساء منهن صحافيات يعملن في “أخبار اليوم”، وموقعي “اليوم 24″، و”سلطانة”، وصحافيات من خارج هذه المؤسسات ونساء أخريات خارج المهنة. كان يبدو مستغربا كيف اطلعت الشرطة على 15 ساعة من التسجيلات وتمكنت من التعرف على هوية النساء واستدعائهن في ظرف 12 ساعة فقط. إحدى الصحافيات وهي ابتسام مشكور تولت الشرطة نلقها من بيتها بالرباط، إلى مقر الفرقة بالدارالبيضاء، فيما الأخريات تم استدعاؤهن بالهاتف. استمر الاستماع إليهن طيلة يوم السبت، وتبين أنه تم عرض أشرطة لعلاقات جنسية عليهن وتم الضغط عليهن للتشكي ضد بوعشرين، بأنه تحرش بهن أو اغتصبهن. تبين حينها أنه تم استعمال تسجيلات موضبة، قالت الشرطة إنه تم حجزها في مكتب بوعشرين، فيما هو نفى بشدة علاقته بها، ورفض التوقيع على محضر الحجز. وخلال أطوار المحاكمة رفضت العديد من هؤلاء النساء الحضور ومنهن من تم استقدامهن بالقوة، وأخريات هربن خارج المغرب. في اليوم نفسه، عادت النيابة العامة لتنشر بلاغا ثانيا، يشير إلى أن الأمر يتعلق ب”شكايات باعتداءات جنسية، سبق للنيابة العامة أن توصلت بها”. وأنه تم وضع توفيق بوعشرين رهن الحراسة النظرية، وأن مصالح الشرطة القضائية تواصل أبحاثها في القضية، واستمعت لبعض المصرحين وبعض الضحايا ومازال البحث متواصلاً. وبموازاة اعتقال بوعشرين قررت الشرطة إغلاق مقر “أخبار اليوم”، في الدارالبيضاء مساء يوم اعتقال بوعشرين وأخذت معها المفاتيح، لكن في اليوم الموالي، السبت 24 فبراير، تم استدعاء موظفة تعمل في الجريدة وتسليمها المفاتيح. وفي يوم الأحد 25 فبراير استمر التحقيق، وصدر بلاغ ثالث للنيابة العامة يعلن أنه تم تقديم بوعشرين إلى النيابة العامة عشية اليوم نفسه، وبعد الاستماع إليه “تمت الموافقة على طلب الشرطة القضائية بتمديد الحراسة النظرية في حقه لمدة 24 ساعة لإتمام البحث”، وفي اليوم الموالي 26 فبراير تم تقديمه من جديد أمام النيابة العامة لتصدر الاتهامات الثقيلة في حقه ب”الاتجار في البشر”، والاغتصاب”، و”التحرش”، وغيرها من الاتهامات الثقيلة. تبين من الملف أن هناك شكايتين ضد بوعشرين، الأولى لنعيمة الحروري، وهي تعمل في ديوان وزيرة من التجمع الوطني للأحرار، وخلود الجابري، صحافية تعمل في موقع “اليوم24″، إذ تتهمانه بالاغتصاب، فضلا عن شكاية مجهولة. خلال التحقيق مع بوعشرين أطلعته الشرطة على تهمة الاغتصاب الموجهة له من نعيمة الحروري، وتاريخها، فرد بأنه كان خارج المغرب في هذا التاريخ، وأن جواز سفره يثبت ذلك، ما جعل الشرطة تغير التاريخ. أما الأخريات اللواتي استدعتهن النيابة العامة، وعرضت على بعضهن أشرطة لوضع شكايات ضد بوعشرين، فمنهن من وضعت الشكاية ومنهن من رفضن، وتبين أن من رفضن تعرضن لضغوط كبيرة، وتم تسخير مواقع إخبارية للتهجم عليهن. تم بسرعة عرض بوعشرين على جلسة المحاكمة في 8 مارس، دون حصول أي مواجهة مع “المشتكيات”، ودون عرض الملف على قاضي التحقيق، وتبين أن هناك رغبة في استبعاد المواجهة مع المشتكيات لتجنب تناقضاتهن. دفاع بوعشرين كشف طيلة جلسات المحاكمة عدة ثغرات، مثل تفتيش مكتبه دون إذن مكتوب من النيابة العامة وعدم إحالة الملف على قاضي التحقيق لتتم المواجهة مع المشتكيات، واستعمال أشرطة لا يعترف بها وتوضيبها وتفريغها في ظرف قياسي، حيث تساءل الدفاع كيف تم تفريغ 15 ساعة من التسجيل في 12 ساعة، وإقحام نساء في الملف رغم أنهن يؤكدن أن لا علاقة لهن بالملف. وأبرز تطور حصل عندما وضعت عفاف برناني إحدى “الضحايا” شكاية ضد الفرقة الوطنية بتهمة التزوير، فتم تحويل الشكاية ضدها ومتابعتها بالبلاغ الكاذب والحكم عليها ابتدائيا واستئنافيا بستة أشهر نافذة. خرجة مشبوهة أمام هذا التحول، خرج الوكيل العام للملك نجيم بنسامي بتصريح لوكالة “فرانس بريس”، يقول فيه إن نساء يشتبه في أنهن ضحايا يتعرضن لضغوط وتهديدات لحملهن على التراجع عن إفاداتهن، وأن محيط المتهم مارس ضغوطا بعرض إغراءات مالية أو تهديدات بالطرد من العمل بالنسبة إلى من يشتغلن لديه وأن النساء “صرن خائفات، ومن واجبنا حمايتهن جميعا”، وهو ما أثار ردود فعل من محمد زيان دفاع بوعشرين، الذي اعتبر أن الغرض من خرجة الوكيل العام، هو “ثني المستنطقات عن عدم مسايرة الرواية الرسمية، وتذكيرهن بأنهن ملزمات بهذه الرواية الرسمية"، التي تسعى إلى إظهار مدير نشر "أخبار اليوم" في صورة مجرم خطير، وليس باعتباره صحافيا مزعجا ويراد إخراس صوته وكسر قلمه بأية طريقة. وخلال فترة الاعتقال الاحتياطي والمحاكمة، كان على بوعشرين أن يواصل صموده. في سجنه في عين البرجة، كان معزولا عن السجناء في غرفة ضيقة، وكان عليه أن يناضل من أجل الحصول على حقوقه البسيطة كسجين، مثل الحصول على أغطية وكتب وقلم وأوراق وساعة حائطية لمعرفة الوقت، وحقه في المراسلة مع زوجته والتحدث عبر الهاتف في مدة معقولة مع أبنائه. كما كان عليه تحمل تهجمات دفاع المشتكيات، داخل قاعة الجلسات على مدى ثمانية أشهر. صعوبة الاعتقال في زنزانته الباردة التي تعج، كما قال، بالصراصير والفئران، لم تثنه عن التعبير عن مواقف سياسية بخصوص اعتقاله، وذلك عبر تدوينات نشرت في حسابه على فيسبوك، وفي “أخبار اليوم”، و”اليوم 24″، آخرها نشره لتدوينة كشف فيها كيف حذره الصحافي السعودي المغدور جمال خاشقجي من عواقب مقال كتابه عن ولي العهد السعودي.