وأخيرا، قالت المحكمة كلمتها- إن كانت، فعلا، كلمتها- وصدر حكم قاس، صادم، ومؤلم ضد الصحافي توفيق بوعشرين. حكم أدار ظهره لكل النداءات الحكيمة ولكل القوى الحية في البلاد. حكم أدار ظهره لمثقفين وحقوقيين وسياسيين وصحافيين. أدار ظهره لعلمانيين وإسلاميين. أدار ظهره لشريفات وشرفاء لا يمكن أن يغامروا بنزاهتهم وبرصيدهم الفكري والنضالي، لمؤازرة رجل لو أنهم علموا بأنه، فقط، أهان امرأة بعبارة غير لائقة، فكيف يؤازروه لو تبين لهم أنه مغتصب ومتاجر في البشر، وما إلى ذلك من التهم التي لا يقبلها عاقل، كما قال رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران. لقد خرج خيرة أبناء هذا الوطن، وأغلبهم يخالفون توفيق بوعشرين الرأي والقناعة، وصرخوا في وجه مهندس هذا الملف: رفقا بصحافي متزن.. رفقا بوطن محتقن. لكن هيهات، فكلمة المحكمة – إن كانت، فعلا، كلمتها- ذهبت ضد إرادة الجميع، وأدانت توفيق بوعشرين ب12 سنة سجنا نافذا، ولسان حالها -إن كان لها، فعلا، لسان حال- يقول: هذا ملف طويناه، أما القضية فلا تعنينا. ولا يهمنا أننا بهذا الحكم نوقع إلى جانب رجل السلطة الذي تزعجه قضية الصحافة المستقلة كما تؤرقه قضية استقلال القضاء، على خطة خنق حرية الرأي والتعبير، وإقبار الصحافة النقدية المستقلة، وإخراس أبرز رموز هذا النوع من الصحافة، الصحافي توفيق بوعشرين، وإلى جانب هذا وذاك تقديم هدية إلى خصوم المغرب ليشنعوا بنا في المحافل الدولية. ومثلما يطلقون العنان لخيالهم الحاقد ليقارن بيننا وبين إسرائيل، سيطلقونه ليقارنوننا بالدول التي تغتال صحافييها، ماديا أو رمزيا، ويقولون: أولائك يذيبون صحافييهم في أسيد الهيدروفلوريك، وهؤلاء يذيبونهم في أسيد إشاعة الاتجار بالبشر. لقد كان القاضي المحترم جعفر حسون يقول إن القضاء في المغرب ينظر إلى قضايا الناس على أنها ملفات، فيقول: ملف عدد كذا، بينما كنت أنا أصر على أن أقول: قضية عدد كذا، لأنني كنت أعرف أن الناس يريدون من القاضي أن يهتم بقضاياهم لا أن يفتح لهم ملفات تحمل أرقاما ثم يطويها. إن ما قامت به محكمة الاستيناف بالدار البيضاء، منذ الاعتقال التحكمي اللاقانوني لتوفيق بوعشرين، وما تلاه من مساطر مخالفة للقانون، هو اختزال هذه القضية إلى مجرد ملف كانت تسارع الزمن وتطوي المراحل، من قبيل القفز على إحالته على قاضي التحقيق، لإيصال الملف إلى حيث أريد لها أن توصله. وها قد استطاعت أن تقفله ابتدائيا، فهل نجحت في إقناع المغاربة بأن قضية اعتقال ومحاكمة توفيق بوعشرين هي قضية ذات طبيعة أخلاقية؟ بالتأكيد لا، ومن يشكك في هذا الأمر فليقم بجولة على مواقع التواصل الاجتماعي ليرى بأم عينيه تعليقات الأغلبية الساحقة من المغاربة على ما يُنشر في هذه القضية، وكيف أن تلك التعليقات بقدر ما تؤكد مظلومية توفيق بوعشرين و”مخدومية” هذا الملف، تزيد من تعميق هوة اللاثقة بين الشعب ومؤسساته الوطنية وعلى رأسها القضاء. لقد أصدر الشعب حكمه ببراءة بوعشرين، منذ تهاوت صكوك اتهامه وتهافتت تصريحات طابور المحامين الذين تم “توكيلهم” للصراخ في وجهه، ثم الهرولة نحو كاميرات الصحافة لإدانته قبل حتى أن يدينه القضاء. ختاما، هل نجح الحكم القاسي ضد توفيق بوعشرين في حل إشكالية قضية اعتقاله التحكمي اللاقانوني، التي سينظر فيها مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان في جنيف، نهاية الشهر الجاري؟ لا، لم ينجح في ذلك، لأن الأحكام النافذة بالسجن لا مفعول لها قبل انقضاء مراحل الاستئناف والنقض، فالمادة 398 من المسطرة الجنائية تمنع تنفيذ عقوبة الحبس أو السجن النافذ الصادر ضد المتهم، داخل أجل استئناف هذا الحكم وأثناء سريان مسطرة استئنافه، كما أن المادة 532 من المسطرة ذاتها تمنع تنفيذ العقوبة الجنائية داخل أجل الطعن بالنقض وأثناء الطعن بالنقض، وبالتالي، فإن توفيق بوعشرين لايزال يقبع في سجن عين البرجة بمقتضى أمر بالإيداع في السجن غير محدود المدة، صادر- بشكل غير قانوني- عن السيد جمال الزنوري، نائب الوكيل العام للملك، وهو ما لا يمكن اعتباره موافقا لسندات الاعتقال القانونية المنصوص عليها في المادة 608 من المسطرة الجنائية التي تنص صراحة على أنه لا يمكن حرمان شخص من حريته إلا بمقتضى سند صادر عن السلطة القضائية يأمر باعتقاله احتياطيا، أو بناء على سند يأمر بتنفيذ مقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، صادر عن هيئة قضائية يقضي عليه بعقوبة السجن أو الحبس أو الاعتقال أو الإكراه البدني. لقد أصبحت هذه القضية مثل ذلك الحيوان الأسطوري الذي كلما سال دمه، خرجت منه جراء شرسة تنفث النار في وجه خالقها. لذلك، لا حل لها إلى بمواءمة حكم القضاء مع حكم الشعب، وتبرئة توفيق بوعشرين.