بالرغم من منعها بموجب قانون جديد، إلاّ أن المفرقعات الصناعية، التي تستعمل خلال احتفالات عاشوراء، تَحدّت المنع هذه السنة أيضا. “أخبار اليوم” تكشف حصيلة هذه “الحرب المصغرة” بالأرقام، وتسلط الضوء على الطرق التي تغزو بها أسواق المملكة. عجلات مطاطية تتدحرج على الأرض وهي مشتعلة. أصوات مفرقعات قوية تكاد تصم الآذان، وصرخات قوية تنبعث من مختلف الجنبات في إشارة إلى صعود نشوة الأدرينالين. هذا ليس مشهدا من فيلم يحكي قصة ثوار يحتفون بفوزهم بعد معارك طاحنة، بل هو مشهد من حي قرية ولاد موسى، أحد أكثر الأحياء فقرا بسلا، خلال ليلة عاشوراء. كل شيء بدأ قبل هذا التاريخ بأسبوع كامل، فليلة عاشوراء بالنسبة إلى هؤلاء الشباب بمثابة متنفس يكسر روتين الأيام التي تتشابه. إذ كلما كان الفقر أكبر زاد عنف الاحتفالات. خلال هذا التاريخ سيجتمع عدد من شباب الحي لوضع خطة لليوم المشهود. يقول أشرف، أحد شباب الحي: “اتفقنا على جمع أكبر قدر من العجلات والخشب. الكل يشارك في العملية، وعندما نحصل على أي شيء نقوم بتكديسه في إحدى البقع الأرضية الآمنة، ونغطيه جيدا”. انطلق العد العكسي لبداية “الحرب”، يتوزع الشباب على فرق ويستعملون ما جمعوه من “مينات” و”قنابل” و”صورايخ” تتراوح أثمنتها بين درهم و15 درهما. ثم بدأت الحرب: الكل يجري في اتجاهات عشوائية تحت صوت المفرقعات. بعضهم يصوب الصواريخ في اتجاه جماعة من الشباب احتموا في الجانب الآخر من الزقاق، ثم يرد هؤلاء الصاع صاعين بمفرقعة تُسمى هنا بال”بوطا”. منهمكا في دوره البطولي هذا، يقول أشرف ل”أخبار اليوم”، إنه لا يعير أي اهتمام بمخاطر هذه المفرقعات، فهي بالنسبة إليه “مجرد لهو ينتهي بمرور عاشوراء”، ثم يعود لوضعية الجندي المتحمس. في الجانب المقابل، كانت السلطات المحلية وقوات الأمن تخوض معركة للتقليل من الخسائر. فما هي حصيلة ذلك؟ حصيلة كبيرة يقول عبداللطيف سودو، نائب عمدة مدينة سلا، إن احتفالات عاشوراء لهذه السنة “كانت بمثابة ظاهرة مقلقة”، إذ أظهرت الحملة التي قامت بها مصالح الجماعة والأمن أن عشرات النقاط كان يكدس داخلها شباب سلا مئات العجلات المطاطية لإحراقها. بل أظهر هؤلاء الشباب، خلال قيام السلطات بعملها مقاومة في بعض الأحيان. “في إحدى النقاط، بمجرد أن وصل فريقنا قام نحو 30 شابا بحمل عجلاتهم والفرار، بل رشقوا سيارات الفريق بالحجارة”، يضيف سودو في حديث مع “أخبار اليوم”. وحسب معطيات رسمية حصلنا عليها من المديرية العامة للأمن الوطني، فإن العمليات الأمنية التي واكبت احتفالات ذكرى عاشوراء لهذه السنة أسفرت عن توقيف 141 شخصا، من بينهم 25 قاصرا، وذلك للاشتباه في تورطهم في قضايا تتعلق بترويج المفرقعات والشهب النارية، فضلا عن ارتكابهم لاعتداءات جسدية باستعمال المواد الممنوعة نفسها. أكثر من 55 في المائة من هذه القضايا سجلت بمدينة الدارالبيضاء، أي ما يمثل 63 قضية، متبوعة بكل من مدن الجديدةوسطات والقنيطرة. كما مكنت الحملات الميدانية التي قامت بها مصالح الأمن، بتنسيق مع السلطات المحلية والقضائية المختصة، من حجز كميات مهمة من المفرقعات والشهب النارية المهربة، بلغ مجموعها 62 ألفا و675 وحدة بمدينة الدارالبيضاء، و36 ألفا و673 وحدة بمدينة الجديدة، تليها كل من سطات والرباط ب 7 آلاف و328 و4 آلاف و988 وحدة على التوالي. حرب بلا بطولة “لا أدري لماذا أصبحت احتفالات عاشوراء بهذا العنف”، تقول فاطمة، وهي سيدة في عقدها الخامس تقطن بحي القرية ل”أخبار اليوم”، قبل أن تعيد شريط ذكرياتها إلى الوراء: “في أيامنا نحن كانت تمر الاحتفالات في أجواء حبية، كانت الفتيات يغنين ويرقصن ويقفزن فوق “الشعالة”، بينما كان الشباب يشعلون النار ويتحلقون حولها مرددين شعارات من قبيل “شعالة.. شعالة.. جيب وقيدة وتعالا”. لم تخف فاطمة خوفها على حفيدها، الذي خرج لعيش احتفالات عاشوراء رفقة أبناء حيه، فبقدر ما تعبر عن قلقها من أن يصيبه مكروه، بقدر ما تعرف أنه لن يتراجع عن عيش هذه اللحظة/المغامرة. “لا يمكن تغيير أي شيء، جميع أبناء الحي يخرجون للاحتفال، ولا أحد بإمكانه تغيير رأيهم”، توضح فاطمة. الكثير من العجلات المطاطية لم تستطع السلطات المحلية جمعها خلال الحملة الاستباقية. فحسب سودو، كان الشباب يخفون العجلات في مناطق لا تخطر على البال، كمحطات الكهرباء المحلية، ومحطات الاتصالات. وحسب مصدر أمني، فقد تم حجز كميات مهمة من العجلات المطاطية وباقي المواد القابلة للاشتعال، المستعملة خلال بعض المظاهر الاحتفالية التي تواكب عاشوراء. المثير في الأمر، هو أن هذه الاحتفالات لا تقتصر فقط، على المفرقعات بمختلف أنواعها، بل تتعداها لمواد أكثر خطورة، من قبيل “الكاربون”، الذي يتم وضعه في “بيدوزات” مياه من فئة 5 لترات، ويتم تفجيره بشكل يخلف دويا كبيرا، إلا أن الأخطر هو استعمال قنينات البوطاغاز. “الأمر لم يعد عاديا، بحيث يتم استعمال البوطا من الحجم الصغير، إذ يقوم هؤلاء برميها في النار المشتعلة، ويتركونها إلى أن تنفجر. ومن المعلوم أن هذه الأخيرة قد تنفجر في أي اتجاه، الشيء الذي يشكل خطرا كبيرا على حياة هؤلاء الشباب وعلى المارة”، يضيف نائب عمدة مدينة سلا. ومن مخلفات هذه الاحتفالات المبالغ فيها بمدينة سلا، تم إحراق بعض أسلاك الكهرباء في مقاطعة “لمريسة”، الشيء الذي أدى إلى انقطاع الإنارة العمومية. ومن حي تابريكت، بالقرب من حي سهب القايد الصفيحي، تم قطع الطريق الرئيسة بسبب المظاهر الخطيرة لهذه الاحتفالات. ولحسن الحظ، لم تكن حصيلة ضحايا هذه السنة ثقيلة، فباستثناء الوفاة الأليمة لشاب بمدينة الدارالبيضاء، بعدما أصيب بشهب صناعي على مستوى العنق، لم يكن هناك ضحايا في باقي مناطق المغرب. المعطيات التي حصلت عليها “أخبار اليوم” من الجهات الأمنية تشير إلى “عدم تسجيل أي أفعال إجرامية استثنائية من شأنها المساس بالطابع الاحتفالي للمناسبة، باستثناء واقعة تعرض ضحية بالدارالبيضاء لإصابة قاتلة، تعاملت معها مصالح الأمن في الحين وأوقفت المشتبه فيه الذي تم تقديمه أمام العدالة”. من أين تأتي المفرقعات؟ بالرغم من أن الحكومة حذرت، عن طريق ناطقها الرسمي، مصطفى الخلفي، من استعمال المفرقعات والعجلات المطاطية خلال احتفالات هذه السنة، إلا أن ذلك لم يعط أكله على أرض الواقع، وظلت هذه المواد تُباع في الأسواق الشعبية بشكل عادي. كما أن القانون الخاص ب”تنظيم المواد المتفجرة ذات الاستعمال المدني والشهب الاصطناعية الترفيهية والمعدات التي تحتوي على مواد نارية بيروتقنية”، لم يردع بدوره مستعملي هذه المواد. فكثير منهم صرحوا ل”أخبار اليوم” بأنهم يجهلون أي شيء عن هذا القانون. ويعاقب هذا النص ب”الحبس من سنتين إلى خمس سنوات وبغرامة يتراوح مبلغها بين 50 ألفا و500 ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، كل من يحوز، دون مبرر قانوني، مواد أولية أو مواد متفجرة أو شهب اصطناعية ترفيهية أو معدات تحتوي على مواد نارية بيروتقنية أو يقوم بإدخالها بطريقة غير قانونية إلى التراب الوطني، وكل من يقوم، بطريقة غير قانونية، بصناعة مواد متفجرة أو شهب اصطناعية ترفيهية أو معدات تحتوي على مواد نارية بيروتقنية”. مصدر أمني سجّل أن المديرية العامة للأمن الوطني كانت “حريصة على مواكبة هذه المناسبة من خلال تعميم تعليمات صارمة على كافة مصالحها على المستوى الجهوي، وذلك من أجل وضع ترتيبات أمنية خاصة، تستهدف بالخصوص تجفيف منابع جلب وترويج المفرقعات الخطيرة والشهب النارية، فضلا عن زجر كل مظاهر الجنوح المرتبطة بها”. ومن خلال المعطيات التي استقتها “أخبار اليوم”، يتبين أن مصادر المفرقعات التي تدخل إلى المغرب متعددة. فهناك التي يتم جلبها من أوروبا مخفية داخل شاحنات أو سيارات، وينجح مستوردوها بشكل غير قانوني في الإفلات من رقابة الجمارك. ثم تقطع هذه المواد مدن الشمال إلى أن تصل إلى عدد من المدن الداخلية، كمكناس وفاس والقنيطرة والرباط وسلا وتمارة وغيرها. وهي تجارة مربحة، بحيث يتم اقتناؤها بأثمنة جد بخسة، قبل أن يُعاد بيعها بالتقسيط. إلاّ أن أكثر المفرقعات شيوعا، والتي تباع بكميات كبيرة جدا في العاصمة الاقتصادية للمملكة، فيتم جلبها، أساسا، من الصين، بحيث تصل على متن سفن الشحن الكبيرة إلى ميناء الدارالبيضاء. “هذه تجارة موسمية تُدر على أصحابها أرباحا كبيرة”، يقول أحد العارفين بخبايا سوق الجملة بمدينة الدارالبيضاء ل”أخبار اليوم”، مضيفا أن هناك بعض الأسماء المعروفة بتهريب هذه السلع إلى المغرب، وهذه الأسماء تحظى بحماية من جهات معروفة بالمدينة. “كل شيء له ثمن في هذا السوق”، يسجّل مصدرنا الذي رفض الكشف عن هويته، مضيفا أن “الأرباح التي تحققها هذه اللوبيات تصل إلى عشرات الملايين من السنتيمات”. وحسب عملية حسابية بسيطة، فالمفرقعة الواحدة التي تباع ب5 دراهم مثلا، يصل ثمنها في الصين إلى درهم واحد، وإذا ما تم طرح تكاليف النقل غير المرتفعة، سنكون أمام قيمة ربح تتجاوز ضعفي المبلغ الأصلي. أما أعداد المفرقعات التي تباع بالسوق السوداء، فهي بعشرات الآلاف.