من كان يظن أو يجرؤ على التفكير، قبل أسبوع واحد، أن الدخول المدرسي لهذا العام سيمر تحت غبار نقاش عاصف حول «غريبة» و«البغرير» و«البريوات»؟ من كان يفكر للحظة واحدة أن مصيبتنا الوطنية الكبرى التي أصابتنا في منظومتنا التربوية والتعليمية، سوف تختزل في أغنية مرح طفولي من قبيل: «واحد جوج ثلاثة باك مشا لسباتة»؟ وأن بلاغا وزاريا رسميا سيصدر ليتبرأ منها وينفي وجودها في أي من المقررات الدراسية الرسمية؟ هل ندرك معنى أن نأتي بعد كل تلك المرثيات التي أصدرها المستشار الملكي عمر عزيمان، عبر مجلسه الأعلى للتعليم، لنحوّل خيمة عزائنا الجماعي إلى حفل تنكري تتقاذف فيه قطع الحلويات التقليدية وشرائح الفطائر؟ لا بد أن نقر في البداية بأن وزير التربية الوطنية الجديد، سعيد أمزازي «المصبوغ» بلون السنبلة الحركية، قد نجح، بدهاء وتدبير أو حظ «يكسر الحجر»، في تجنب لهيب لحظة مفصلية في جل المجتمعات، أي مرحلة الدخول المدرسي، وما يرافقها من انكباب جماعي على مساءلة المنظومة التعليمية، والمطالبة بتربية أفضل. فلو كان «المصبوغ» السابق بألوان الحركة الشعبية، محمد حصاد، يواصل حمل حقيبة التعليم الآن، لكان المسكين في مواجهة حساب عسير بعد الوعود التي أطلقها مرقمة ومفصلة حول إنهاء الاكتظاظ، والقطع مع صورة المدرسة المتهالكة والمجردة من أبسط وسائل العمل. من شبه المؤكد أن أمزازي قضى الليلتين الماضيتين مرتاح البال، يقضم قطع «البهلة»، ويقرأ ضاحكا تعاليق بعض «البلهاء»، ويحمد الله أنه لم يسلم أبناءه للمدرسة العمومية، وناضل بشراسة قبل استوزاره، حين شارك في وقفات احتجاجية لآباء تلاميذ البعثة الفرنسية بالمغرب، مطالبا بالتراجع عن الزيادة في رسوم العبور نحو مدرسة النجاة. بعد تفجير جدل استعمال أسماء بعض المأكولات المغربية التقليدية ضمن المقررات الدراسية، هناك من تطوّع لتوضيح أن تلك الكلمات نفسها ليست محط إجماع، وأن هناك من يطلق على «غريبة»، مثلا، اسم «البهلة». توضيح، على صحته، يثبت أننا بصدد فصل جديد من فصول «البهلان»، وليس النقاشات الوطنية الكبرى التي تستحق التعبئة والانخراط. الزوبعة التي عشناها هذا الأسبوع ليست مجرّد مظهر من مظاهر الاختلاف في الآراء بين مناصري اللغة العربية ودعاة الدارجة، ولا مجرد فصل من فصول الصراع بين الفرانكفونية وخصومها في المغرب. فلغة موليير تحتمي بدولة فرنسا، التي جاء رئيسها الحالي، إيمانويل ماكرون، العام الماضي، شخصيا ورسميا، للتمكين لها وتعزيز قدراتها، ولست ممن يؤمنون بأن الفرانكفونية تحتاج بالفعل إلى الدارجة والأمازيغية لتعزيز موقعها ضد اللغة العربية، فما تتوفّر عليه الفرنسية من شبكة مصالح ومراكز ثقافية ومواقع نفوذ ولوبيات، يعفيها من معارك كهذه. التوقيت والطريقة اللذان جرى اختيارهما لإطلاق بالونات اختبار من عجين «البغرير» و«غريبة»، يجعلانها مجرّد حلقة جديدة في سلسلة رسائل تحمل معنى واحدا: عليك، أيتها الأسر المنتمية إلى الطبقة المتوسطة، أن تنقلي أبناءك إلى المدارس الخاصة، فالدولة لم تعد تقدر أو ترغب في تحمّل هذا العبء الاجتماعي. هذه الرسالة، التي تعكس اختيارا سياسيا واضحا، هي نفسها التي تتلقّاها الطبقة المتوسطة من المدرسة كما المستشفى. رسائل «ارحل» تتوالى منذ سنوات، وإلا ما معنى هذا الكم الهائل من التقارير الرسمية التي تسوّد صورة المدرسة والمستشفى والخدمة العمومية دون أن تفضي إلى أي إصلاح؟ العمق والخلفية سياسيان، وما اللغة والإيديولوجيات والنعرات إلا حطب يراد له أن يُنضج طبقة متوسطة باتت مصدر إزعاج في السنوات الأخيرة. هذه الفئة هي التي باتت تعتبر نفسها ذات حقوق مواطناتية على دولة تعيش من الضرائب، وباتت تتطلّع إلى انتزاع موقع داخل دوائر القرار، ووصل بها الأمر إلى درجة الإقدام على اختيارات انتخابية وسياسية تعاكس هوى الدولة. الصراع الحقيقي هو بين من يتطلعون إلى دولة المواطنين، ومن يرغبون في تكريس دولة المحكومين. وإذا كانت للبورجوازيات، بمختلف أنواعها، قنوات معروفة للتوجيه والإخضاع، خاصة قناة المصالح الاقتصادية، فيما تستمر بعض الفئات الفقيرة والهشة طيّعة في يد البنيات الاجتماعية والسياسية التقليدية، المرتبطة عضويا بالسلطة؛ فإن هذه الطبقة المتوسطة التي «سخن عليها الراس» من يجب أن يمنع من التحوّل إلى قوة لها كلمة، وأحد السبل الفعالة لتحقيق ذلك، هو حرمانها من مدرسة عمومية وطنية مكّنت أجيالا سابقة من الترقي الاجتماعي. المشكلة ليست في توظيف الدارجة أو الفرنسية أو الصينية في المدرسة، بل في الرسالة التي نبعثها حين نوحي بأن تمكين أبنائك من «القراية»، التي ترادف عند كثير من المغاربة اللغة الفصيحة، يعني أن عليك أن تدفع. باراكا من «البهلان».