رفعا لكل لبس، خصوصا وأننا نعيش هذه الأيام إسهالا حادا في الوطنية المشوهة، فإنني أقصد بكرواتيا شرطة القرب التي كان مشاغبو الأحياء يهتفون لعناصرها عقب كل تدخل ناجح، على سبيل التشجيع المعجون بالسخرية: «عاشت كرواتيا». هؤلاء المشاغبون، وبسخرية مشابهة، قالوا إنهم يشجعون منتخب كرواتيا في نهائي كأس العالم، لأن اسم رئيستها (كيتاروفيتش) «مشتق» من إحدى الصيغ الصرفية للواقع الاجتماعي والسياسي للمغاربة: «ما قريتيش.. ما خدمتيش.. ما دَّاويتيش.. ما تحزبتيش.. ما صوتيش». وللحقيقة، فإن أغلب المغاربة شجعوا هذا المنتخب لأن رئيسته الجميلة أعجبتهم بعفويتها مع لاعبي وجمهور بلدها، وخلبت لبهم أكثر عندما علموا أنها اقتنت تذكرة طائرة من مالها الخاص، وسافرت إلى روسيا على متن رحلة سياحية جنبا إلى جنب مشجعي بلدها وغيرهم من الركاب. لقد أبانت تظاهرة كأس العالم الأخيرة عن تحول مهم في وعي مشجعي كرة القدم المغاربة، الذين كانوا في السابق مسلوبي الوعي الاجتماعي، خصوصا أن دورة روسيا صادفت حملة المقاطعة الشعبية، وصدور الأحكام القاسية في حق معتقلي حراك الريف والصحافي حميد المهدوي، لذلك، وقف أغلب المغاربة ضد منتخب فرنسا، الذي عادة ما كان يحظى بتشجيعهم. وغالبا فعلوا ذلك لأنه لم يعد يساورهم شك في أن اللوبي الفرنسي في المغرب هو أكبر معيق للديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان، وقد جسد هذا الاتجاه أحمد رضا بنشمسي، عندما كان ناطقا إعلاميا باسم هذا اللوبي، في إحدى افتتاحياته ب«تيل كيل»، بقوله إن المغاربة لديهم ملك حداثي ليبرالي، وبالتالي، لا حاجة لهم بانتخابات توصل جاهلين وفاسدين إلى الجماعات الترابية والبرلمان.. وعندما كتب أيضا، عقب أحداث 16 ماي الإرهابية، أن من اعتُقلوا لا يستحقون معاملتهم وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان. طبعا بنشمسي سيعرف تحولا جذريا، وسيصبح لاحقا من أكبر المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبالعودة إلى كرواتيا، فشخصيا أعجبت كثيرا برئيستها، كوليندا غرابار كيتاروفيتش، بعدما حفزني حضورها الفارق في المونديال على الاطلاع على جزء من مسارها السياسي والدبلوماسي. فعندما كانت سفيرة لبلدها في الولاياتالمتحدةالأمريكية، قام أحد موظفي السفارة، في 2010، بتصوير زوجها، كيتاروفيتش ياكوف، وهو يستخدم سيارة السفارة لأغراض خاصة، ففتحت وزارة الخارجية تحقيقا في الموضوع، ورغم أن السفيرة صرحت بأنها لا تستطيع فصل حياتها العملية عن حياتها الخاصة، فقد أدت بعد ذلك جميع النفقات التي حدثت بسبب استخدام زوجها سيارة السفارة. الطريقة التي تصرفت بها رئيسة كرواتيا عندما كانت سفيرة لبلدها في واشنطن أثارتني كثيرا لأننا في المغرب، وقبلها بعشر سنوات، عشنا واقعة مشابهة، عندما نشرت أسبوعية «لوجورنال»، سنة 2000، تحقيقا عن وجود اختلالات مالية في عملية اقتناء إقامة السفير المغربي بواشنطن، وهي الاختلالات التي اعترف وزير المالية حينها فتح لله ولعلو، ضمنيا، بوجودها، ومع ذالك حكم علي مدير الجريدة، بوبكر الجامعي، ابتدائيا، بثلاثة أشهر حبسا نافذا، وعلى رئيس تحريرها، علي عمار، بشهرين حبسا نافذا، مع أداء تعويض ب200 مليون لفائدة السفير محمد بنعيسى. وبعد الحكم الاستئنافي، جرى الحجز على الشركة التي كانت تصدر «لوجورنال»، فكانت تلك بداية نهاية واحدة من أهم الجرائد المستقلة في تاريخ المغرب. وقد حكى لي بوبكر الجامعي، في حوار صحافي معه، كيف أن القاضي الذي حكم عليه، التقاه وقدم له بعض الحلوى واعتذر إليه قائلا: «كنت أمام خيارين؛ إما أنت وإما وزير صاحب الجلالة»، في إشارة إلى بنعيسى، الذي كان خلال صدور الحكم وزيرا للخارجية. في كرواتيا، تعترف السفيرة بخطأ زوجها، تقدم تعويضات للدولة، وتستقيل من منصبها، فيُكافئها الشعب وينتخبها رئيسة للدولة. وفي المغرب يُرقى السفير إياه إلى وزير، ويعترف القاضي، بعد سنوات، بأنه لم يكن عادلا في حكمه ولا مستقلا في قراره. ويبقى الحال على ما هو عليه. هكذا تدفعون المغاربة للهتاف: عاشت كرواتيا؟.