أجسادهن تنهكها الأثقال .. ونفوسهن تخربها الإهانات والتحرش والعنف ترجمة : توفيق سليماني هنا، على الحدود مع مليلية يحملن بضائع ثقيلة تصل إلى 60 كلغ مقابل 50 درهما في كل رحلة يقمن بها في هذا الجحيم.. معظمهن أميات ومطلقات وأمهات عازبات لم يجدن سبيلا في الحصول على لقمة العيش غير القيام بدور الدواب. حولي الساعة السادسة صباحا، يبدو كأن هذا الطابور البشري لا نهاية له على الحدود مع مدينة مليلية. كما جرت العادة كل يوم في هذه الساعات المبكرة، تجتمع العشرات من النسوة، أغلبهن طاعنات في السن، للعبور إلى مليلية بحثا عن السلع. ينتظرهن يوم شاق من العمل، مجندات فقط بجلباب، ويضعن حجاب مرتب بعناية تامة، يبدو أنه السلاح الوحيد لمقاومة البرد القارس خلال فترة الصباح.
50 درهما لكل رحلة فور اجتياز البوابة الحدودية يسارعن إلى مخازن مليلية، حيث يحملن على ظهورهن ما يناهز 80 كيلوغراما من السلع، ليقفزن مسرعات نحو البوابة مرة ثانية. نصيبهم في ذلك 50درهما عن كل رحلة. وكلما تمكن من القيام بالعديد من الرحلات كلما استطعن ربح المزيد من المال. لكن، في الغالب الأعم، ولا واحدة منهن استطاعت القيام بأكثر من ثلاث رحلات في اليوم. صوفيا، 41 سنة، حاصلة على الإجازة في الأدب العربي من جامعة فاس، مسقط الرأس، وهو شيء غير معتاد في أوساط هؤلاء النساء اللواتي يقتتن من هذه المهنة «حمّالة»، كمثيلاتها من النساء العاطلات عن العمل، كانت قد غادرت مدينتها بحثا عن العمل. كلهن سمعن بأنه في مكان الحدود مع مليلية هناك طريقة لربح المال، ولكن قبل ذلك كان عليهن الحصول على شهادة السكنى بمدينة الناظور، لأن قاطني هذه المدينة وحدهم يسمح لهم بدخول مليلية دون الحاجة إلى جوازات السفر. في ذلك الصباح من شهر أبريل 2008، اندس رجل أمن إسباني بين الحشود ليصل إلى الضحايا الذين خلفهم الازدحام القوي الذي حدث عند البوابة؛ عندما وصل وجد حمولة كبيرة ملقاة على الأرض ونساء محاصرات بسبب ضغط الحشد. أطلق الرصاص في الهواء لفتح المجال لتقديم المساعدة، لكن الأوان كان قد فات، وحدث ما حدث. وفق ما أكده طبيب مختص في التشريح: توفيت صوفيا على إثر نزيف رئوي ناتج عن الضغط القوي على مستوى صدرها. حسب أرقام صادرة عن المنظمة العالمية للشغل، التابعة للأمم المتحدة، يشهد كل يوم وفاة 6400 ألف شخص في العالم بسبب أحداث مرتبطة بالشغل أو أمراض ناتجة عن طبيعة العمل؛ أي ما يقارب 2.34 مليون شخص كل سنة. ولعل الأرقام الحقيقية أكبر من هذا العدد المعلن عنه لأن الكثير من حالات الوفيات تحدث في صفوف العاملين في القطاع غير المهيكل الذي لا يخضع لأي مراقبة قانونية. ليس بالأمر العادي مصادفة حالة مثل حالة صوفيا، هي حالة استثنائية في أوساط الحمّلات اللواتي يكن في الغالب أميات، والعديد من هن مطلقات، وأخريات تخلى عنهن أزواجهن، أو حتى «أمهات عازبات». يكسبن المال عن طريق حمل السلع التي تنتقل إلى أيدي التجار المغاربة. إذا ما دخلت هذه البضائع عبر الجمارك، أي بشكل رسمي، في الشاحنات أو وسائل نقل أخرى، يجب على التاجر تسديد رسوم على ذلك. في المقابل يسمح بنقل السلع على أنها «حمولة شخصية»، ووحدهن «النساء من صنف البغال» القادرات على القيام بهذا العمل المضني.
صراع على الأثقال يكون الأفق قد شرع بالكاد في فتح جفونه لما يتشكل على الجانب الإسباني سيل عارم من الناس. وبينما الضباب يغطي الأسلاك الشائكة، والبرد الشديد يخز العظام. تسير في صف الولوج الآلاف من الأماني المنكسرة. وفجأة، تتوقف دراجة نارية لنقل البضائع، ويلقي السائق كل الإطارات التي كان يحملها. الكثير منهن ينقضضن عليه كأنه هدفهن الأخير في الحياة. العديد من الشاحنات البيضاء تصل إلى الفضاء المخصص لها قبل المعبر الحدودي. وقبل أن تتوقف، ينقض العديد من الرجال والنساء على الأبواب الخلفية، وهم يتدافعون، ويدوسون بعضهم بعضا، ويتصارعون في ما بينهم، ويصعدون إلى الشاحنة لإفراغها من الحزمات. عدد الأشخاص يفوق عدد الحزمات مما يجعل الكثير منهم يصاب بالإحباط. وعلى الرغم من شكله الفوضوي- في الواقع- أغلبية الحزمات موثقة بشكل دقيق. يتحمل الرجال مهمة الحمل، تقريبا وحدهم الذين يقومون بحمل الحزمات في الشارع، أما غالبية النساء، فيجب عليهن السير على الأقدام إلى بلوغ مكان تواجد السفن هناك في ركن بعيد، بحيث يقمن بحمل السلع على الظهر والسير بها حتى الوصول إلى السياج. بالنسبة لهن، أن القيام بهذا المشوار أمر مستحيل، لولا وجود أنطونيو، سائق حافلة البلدية، الذي يسمح لهن بالهبوط قرب المكان المستهدف، ويصطحبهن عند العودة قصد التخفيف عنهم من شدة الجهد. يعرف أنطونيو أسماءهن جميعا، وهو محبوب لديهن. تعاطفه مع هؤلاء النسوة يدفعه إلى حد تقديم المساعدة لهن على رفع الحزمات الثقيلة إلى الحافلة. «إن الذي تراه لا يمت للإنسانية بصلة، لكن هذا ما يحدث كل يوم. كل يوم تقوم هؤلاء النسوة بنقل 300 طن من السلع على الظهر». لهذا، يتعرضن دوما لتشنجات عضلية نظرا لثقل الحزمات، وأضرار صحية أخرى يتعرضن لها. وعلى ما يبدو، فعملهن أكبر بكثير من عمل الرجال، نظرا لكون الرجال يستعملون وسائل أخرى مثل دفع هذه الحزمات الثقيلة. يتضح جليا عند أسفل الشاحنات كيف يقمن برفع الحزمات وربطها على الظهر بخيوط أو حبال، تترك في الغالب أثرا سيئا على أكتافهن وأعناقهن. إنهن يتحولن إلى أطياف مترنحة بين الذهاب والإياب بوجوه شاحبة، يحملن الأحذية، الأغطية، البطاطس، الفواكه، و «فوطات» الرضع..، هن مستعدات لحمل كل شيء، ويقمن بلفه ووضعه على الصدر أو الفخذ. كل شيء يخاط بإحكام. هكذا، ينتفخن ويصبحن مثل قنابل بشرية موقوتة على وشك الانفجار. لهذا فالكثير منهن تصاب بالانهيار في الطوابير بسبب ثقل الحزمات وطول ساعات الانتظار، بالإضافة إلى الأعباء المتراكمة والضغوطات الناتجة عن سرعة التحرك؛ الألم يغطي عيونهن ويتسلل من أعماقهن ليبدوا واضحا على أجسادهن. «لولا عدم وجودنا هنا لاقتتلوا فيما بينهم»، صرح أحد أفراد الحرس الإسباني، الذين يعملون على تنظيم هذه الجموع الغفيرة من الناس. والمثير في الأمر أنه مر أسبوع دون حدوث أي فوضى، ولعل هذا راجع بالأساس إلى الحاجز الأوتوماتيكي الذي أقامه الحرس المدني الإسباني، المكون أساسا من مجموعة من الممرات التي تؤدي إلى المدخل الحدودي. الحمّال يختار بين هذا الممر أو ذاك، حسب طبيعة الحمولة. «المهم هو الحركة، لأن الوقوف يتسبب في انهيارات بشرية»، يقول رفائيل مرتنيز، مسؤول الأمن في الحدود. انتقى القائد عشرين حمّالا لمساعدة عناصر الحرس على حفظ الأمن والترجمة لأبناء بلدهم مقابل امتياز نقل السلع دون الحاجة إلى الوقوف في الطوابير. «كلهم يحملون قبعات صفراء وأرقام خاصة»، يقول المصدر ذاته، قبل أن يضيف: «منحتهم قبعات صفراء في اليوم الأول كطريقة لتمييزهم عن البقية. لكن، في اليوم الموالي ظهر 80 شخصا بنفس لون القبعات من أجل تقديم المساعدة، بحيث كان من الصعب معرفة من المتطوع الحقيقي. لهذا كنت مضطرا لوضع رقم خاص لكل واحد منهم».
صور من القرون الوسطى رغم المجهودات التي تقوم بها القوات المكلفة بالتنظيم، فإن مشاهدة «النساء من صنف البغال» يترنحن وظهورهن مقوسة، 45 درجة، ويقطعن مسافات طويلة محملات ببضائع متنوعة، وهن على وشك الانهيار بفعل ثقل الحزمات، يجعل المرء يتصور أنه يعيش ضمن مشهد أقرب إلى زمن العصور الوسطى منه إلى الحدود الجنوبية الأوربية في القرن الواحد والعشرين. معبر الراجلين «غير قادر على استيعاب عدد الأشخاص الذين يستقبلهم كل يوم»، أكد خوسي بلثون من المنظمة غير الحكومية «بروداين»، قبل أن يضيف: «هناك ضيق المساحات، والطاقم، ومناصب الشغل، ورجال الأمن ليسوا بالعدد الكافي، وفي الغالب يكونون على أعصابهم. ويمر المغاربة من ممرات ضيقة وصغيرة وينتظرون ساعات طوال. إنها قنبلة موقوتة..، لم يتم التفكير منذ الوهلة الأولى في حدود تسهل عملية العبور». حينما حل منتصف النهار، الوقت الذي تغلق فيه الحدود لنقل البضائع، يسمع أنين سيدة عجوز تختفي خلف الأسلاك الشائكة، توقفت لوقت قصير، وتقول متلعثمة بإسبانية ضعيفة:»غدا في الصباح الباكر... مرة أخرى».
أعباء أخرى مؤلمة أبرزت جمعية حقوق الإنسان بإقليم الأندلس في إسبانيا أهمية خلق «ميكانزمات» قادرة على جعل عملية العبور تمر بطريقة لا تشكل خطرا على صحة هؤلاء النساء. وتركز على ضرورة «تغيير شكل مناطق العبور، بالإضافة إلى السماح باستعمال آليات يدوية لنقل هذه البضائع»، كما لا تفوت هذه الجمعية أي فرصة ل «التنديد بالوضع المهين للكرامة الإنسانية، والاستغلال التعسفي لهؤلاء النساء المنسيات من قبل المسؤولين السياسيين بالدولتين معا». المغرب كما إسبانيا وقعا على اتفاق حول مراقبة الشغل سنة 1947، تلزمهما بتحسين الرقابة والقيام بعمليات تفتيشية في موضوع الأمن و السلامة في العمل. لكن، يبدو أن هذه الحدود مستثنية، فكأنها أرض ترجع إلى مرحلة المشاعة البدائية. وحسب «منظمة مراقبة الشغل»، هناك علاقة «وطيدة» بين العنف في العمل وبين فرص العمل غير القارة مثل نقل البضائع، إذ يجب على الحمّلات «اللاتي لا يقتصر دورهن فقط في حمل السلع وسماع توجيهات من يراقبون نقل البضائع»، تضيف نفس المنظمة، «بل، بالإضافة إلى ذلك يجب عليهن تحمل عنف الشرطة، والخروج بشكل سليم من شدة الازدحام، وحمل الضربات والتحرش الجنسي، وعليهن دفع الرشاوى، وتحمل البرد والمطر والحرارة المفرطة، وخاصة العيش في مناخ تحتل فيه البضاعة مرتبة «السيد». بتصرف عن « إيل باييس»