مرة أخرى يحاول بعض المثقفين أن يستعيدوا النقاش حول «المساواة في الإرث» لكن، من مدخل يتجنب الاحتكاك بالنص القرآني، ويلتف على مطلب المساواة، بمطلب إلغاء التعصيب من نظام الإرث، ويحاول ترتيب خطوات المعركة مع النص الحديثي الذي أرسى قواعد التعصيب كما هو مقرر في مدونة الأسرة. وبغض النظر عن خلفيات هذا المطلب وسياقه، ودون الاضطرار إلى التورط في مناقشة مضمونه والآثار التي يمكن أن تنجم عنه، فإن العدول عن طرح قضية المساواة في الإرث إلى طرح إلغاء التعصيب، يضمر اعترافا بمخاطر الاصطدام بالنصوص القرآنية، وبمحدودية أي دعوة تراهن على تحديث ثقافي مجتمعي يخاصم المرجعية الإسلامية. صحيح أن فهم المجتمع قضية المساواة في الإرث أوضح من فهمه قضية التعصيب فيه، لكن، في المحصلة، فمطلب إلغاء التعصيب يعني في حقيقته نسف نظام الإرث برمته، والتمهيد لتغييره بنظام آخر، وأن تغيير المصطلحات، وإعادة ترتيب المعركة لن يغير من طبيعتها، وأن الأفضل في هذه الحالة مصارحة المجتمع بحقيقة الموقف. لغة الوضوح مع المجتمع تفرض مصارحته بحقيقة المطلب، لا الالتفاف عليه، أي أن يقال للمجتمع إن هناك نخبة تريد تغيير نظام الإرث لأنه لا يتساوق مع تصورها لمنظومة حقوق الإنسان، وأنها تطمح إلى نظام آخر مستوحى من تجربة أخرى غير نظام الإرث الشرعي الذي تقبلته الأمة وتوارثته قرونا طويلة. وفي هذه الحالة، سنكون أمام ثلاثة سيناريوهات لا غير؛ سيناريو إقناع العلماء بضرورة تغيير نظام الإرث والحاجة إلى نظام إرث جديد، أو تحكيم الديمقراطية بالدعوة إلى استفتاء شعبي في الموضوع والنزول عند نتائجه، أو محاولة فرض هذا الرأي على المجتمع قسرا، وفي هذه الحالة قد نصل إلى سيناريوهات شبيهة بما تعرفه بعض البلدان التي فقدت استقرارها. التجارب تؤكد استحالة أن يقبل المجتمع بهذا المطلب، فتونس بورقيبة لم تجرؤ يوما على طرح المساواة في الإرث بين الجنسين، ثم تونس اليوم، التي دعا فيها الرئيس الباجي قائد السبسي في شهر غشت الماضي إلى تغيير قانون الإرث، وفرض المساواة بين الجنسين فيه، تعرف معارضة شديدة لهذه الدعوة من المجتمع والمؤسسة الدينية، سواء داخل تونس أو خارجها، فالأزهر الشريف أعلن موقفه الرافض هذه الدعوة، وإلى حد اليوم، لم تفلح تونس في التقدم خطوات في هذا الاتجاه، ولا يبدو أن هذا السيناريو سيرى الوجود بسبب الرفض المجتمعي. في المغرب، تواجه مطلب إلغاء التعصيب ثلاثة عوائق: الأول، مواجهة نظام إرث شرعي يحظى بدرجة عالية من التوقير من المجتمع، ويعتبر المساس به عند عموم الناس مساسا بالدين. والثاني، الحاجة إلى تفاعل إمارة المؤمنين مع هذا المطلب، ذلك التفاعل الذي يتعذر في العادة عند عدم تبنيه من طرف العلماء، وصياغته ضمن قالب اجتهاد شرعي منضبط للأصول الشرعية. والثالث، يتمثل في عدم الوعي بحقيقة هذا المطلب، فتنزيل مطلب إلغاء التعصيب لا ينتج عنه فقط تمكين البنات اليتيمات من الإرث، دون أن يدخل عليهن الأخ أو العم مثلا، ولكنه قد يؤدي إلى حرمان نساء أخريات من الميراث، ربما يعانين الدرجة نفسها من الهشاشة، فبأي ذنب سيتم حرمان أخوات الميت في حال تركه البنات؟ هذه العوائق الثلاثة هي التي تفسر اليوم خروج بعض العلماء الوازنين لنقد هذا المطلب وتسفيه محتواه المعرفي، كما فعل الدكتور مصطفى بن حمزة، كما تفسر عزلة هذه الدعوة وهامشيتها، والعجز عن دمج العلماء المجتهدين ضمن دعاتها. للأسف، قضية الاجتهاد في المرأة العدول لم يُلتقط درسها. فالتدقيق في حيثيات قضية المرأة العدول، وضبط المفهوم في السياقين التاريخيين المختلفين، أفضى إلى صياغة المطلب في قالب اجتهادي شرعي نال مقبولية لدى عدد وازن من العلماء، وسمح لأمير المؤمنين، في إطار صلاحياته الدينية، بأن يرفع المظلمة عن المرأة، ويفتح لها باب هذه الوظيفة، وحظيت المسألة بمشروعية مجتمعية دون وقوع أي صدمة تذكر، في حين لم يجد مطلب إلغاء التعصيب هذا الدعم من العلماء، ما يرجح أن تبقى مؤسسة إمارة المؤمنين على مسافة من هذه الدعوة، كما يرجح أن تبقى هذه الدعوة هامشية معزولة عن المجتمع. المفارقة بين النازلتين تذكرنا بفكرة عميقة أدلى بها الأستاذ عبد الإله بنكيران وهو يعلق على اجتهاد الدكتور أحمد الريسوني بخصوص المرأة العدول، فالقناعات الدينية التي تخترق وجدان المجتمع، يصعب تغييرها بالصدمة أو صعق التحديث الثقافي الفوقي، وإنما يتطلب ذلك أن يكون العلماء الجسر الذي يمر منه هذا التجديد والتغيير، إذ وحدهم من يمتلكون مرجعية مخاطبة الجمهور في القضايا الدينية وإقناعهم بها، والاجتهاد فيها وفق الأصول الشرعية، وفي إطار نظام إمارة المؤمنين، ووحدهم من يملكون القدرة على تحقيق المشروعية المجتمعية لهذه الاجتهادات بسلاسة كبيرة، من غير مخاصمة لمرجعية المجتمع. الخلاصة أن القناعات الدينية المترسخة في وجدان المجتمع يصعب تغييرها دون مرجعية العلماء، وخسارة المشروعية المجتمعية في هذه القضايا تبدأ بخسارة جانب العلماء.