المغرب مثل الأقرع أينما ضربته يسيل دمه.. أول أمس أهرق إدريس جطو، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، الكثير من الدماء في البرلمان، وفجر الكثير من فضائح السياسة والإدارة والتدبير والتخطيط، بمناسبة عرض نتائج افتحاص صندوق المقاصة، ومآل المليارات التي تذهب إلى دعم المواد الأساسية، دون أن تصل إلى مستحقيها... عندما يقرأ الإنسان التقرير/القنبلة، ويرى حجم المليارات التي تضيع كل سنة، وحجم الأخطار التي تحيط بالأمن الطاقي المغربي، يضع يده على قلبه ويقول: آه لو كان في البلاد قضاء مستقل وقوي، لوضع المسؤولين عن هذه الجرائم وراء القضبان، ولو كانت في المملكة إرادة سياسية لمحاربة الفساد، واعتبار المفسدين أعداء وليسوا حلفاء، لوجدت عصابة هدر المال العام نفسها عارية أمام الشعب، لكن السياسة في هذه البلاد عودتنا على التعايش مع الفساد وعلى حماية المفسدين! سنويا تخصص الدولة حوالي 44 مليار درهم لصندوق المقاصة، وتصل هذه الميزانية أحيانا إلى 50 مليار درهم، لكن هذا الرقم الكبير أين يذهب؟ إليكم النتيجة التي أعلنها إدريس جطو، وهو ابن المؤسسة وليس معارضا، وهو ليس خبيرا فقط، بل هو رجل تقنوقراطي وسياسي، وفي يده ميزان يزن الذهب، وأنا أعرف أنه لا يقول كل شيء، وأنه يختار كلماته وجمله بعناية، فهو يعرف أن صحة النظام لا تقوى على قول كل الحقائق، لهذا فهو يراعي أمورا كثيرة. 36 في المائة فقط من ميزانية المقاصة تذهب إلى دعم الأسر، فقيرها وغنيها، وإذا علمنا أن الأغنياء يستهلكون أكثر من الفقراء الغازوال وقنينات الغاز والسكر والدقيق، فلكم أن تتصوروا كم يبقى للفقراء من هذا الدعم. قال تقرير جطو إن الأسرة التي لا تتوفر على سيارة (يمكن اعتبارها فقيرة إلى حد ما أو متوسطة الحال)، يصلها سنويا عبر الدعم المقدم في الغاز، السكر والدقيق أقل من 2000 درهم، أي أن الفقراء لا يصل إليهم سوى 166 درهما في الشهر من صندوق المقاصة، أي 5 دراهم في اليوم، أما الفئات المتوسطة التي تتوفر على سيارة فتحصل على ضعف هذا الدعم، أي 4000 درهم في السنة، أي 333 درهما في الشهر، أي 11 درهما في اليوم، أي أقل من أورو. أين يذهب الباقي؟ الفلاحة تلتهم ٪24 من قيمة الدعم من خلال دعم المحروقات التي تستعمل في الجرارات، والغاز الذي يستعمل في السقي، والغازوال الذي يستعمل في الصيد البحري، كل هذا أخذ من صندوق المقاصة سنة 2013، مثلا، 6 مليارات درهم، هذا في الوقت الذي تذهب هذه الملايير بالأساس إلى جيوب الفلاحين الكبار والمتوسطين والشركات التي تستثمر في هذا المجال، والتي كانت وسيبقى جلها معفيا من أي ضريبة، هذا في الوقت الذي يصل سعر الكيلوغرام من السردين في السوق إلى 30 درهما و«الصول» إلى 80 درهما. فلماذا ندعم، إذن، هذا الصيد الذي لا يستفيد منه المواطنون؟ النقل يحوز 16 في المائة من ميزانية المقاصة، والصناعة تبتلع 11 في المائة من الصندوق، أما المكتب الوطني للكهرباء والماء فيحصل على 12 في المائة من مخصصات الصندوق، في حين يشتكي أغلب المواطنين ارتفاع كلفة فاتورة الكهرباء والماء. مكتب علي الفاسي الفهري، لوحده، يحتاج إلى دورة كاملة في البرلمان للوقوف على الاختلالات العميقة الموجودة فيه منذ سنوات. ماذا قال عنه جطو؟ «التأخر في إنجاز محطات جديدة لإنتاج الكهرباء الرخيص من قبل المكتب الوطني للماء والكهرباء كلف خسارة 24 مليار درهم منذ 2006، وسيكلّف، من هنا إلى أن تنطلق محطة آسفي، 22 مليار درهم أخرى، أي 46 مليار درهم في المجموع خسرناها بسبب التأخر في اتخاذ قرارات وإنجاز مشاريع». الفيول الخاص المستعمل حاليا لإنتاج الكهرباء، يرفع كلفة الكيلواط الواحد إلى أكثر من درهمين، بينما لا تتجاوز كلفة إنتاجه بالفحم أو الريح 70 سنتيما. عوض أن ننتج الكيلواط الواحد من الكهرباء ب70 سنتيما ننتجه اليوم بالفيول المدعم الذي يكلف درهمين لأن المسؤولين السابقين واللاحقين لم يقوموا بعملهم، ولم ينجزوا المشاريع التي كُلفوا بها، فمن سيسائلهم عن كل هذه المليارات التي ضاعت؟ أكتفي بهذا القدر لأن المرارة وصلت إلى حلقي، وإذا دخلت إلى فصل آخر، وهو ما تأخذه، ظلما وعدوانا، شركات المحروقات من صندوق المقاصة، فإنني لا آمن على نفسي من مضاعفات صحية لا أحتملها. إليكم تقرير المجلس الأعلى للحسابات فهو منشور في الموقع الرسمي للمجلس، ويا حبذا لو يجد بنكيران الوقت لقراءته وترتيب الجزاءات والقرارات التي يتطلبها الوضع الكارثي الذي نعيشه. لا أنسى أن أشكر الفريق النيابي الذي طلب من المجلس الأعلى للحسابات أن يقوم بهذه المهمة، فلولا هذه المبادرة لظل السر محفوظا في الطنجرة. السؤال الآن: ما العمل؟