هي حكاية قرية نائية وسط جبال الأطلس.. السجان والسجين فيها سواء معتقلان لدى الدولة، الأول معتقل الجسد، والثاني معتقل الروح.. تلك خلاصة الفيلم الروائي الجديد الذي قدم مخرجه، عز العرب العلوي، عرضه الأول «كيليكس.. دوار البوم»، كناية عن الشؤم. شؤم لم يسقط فيه المواطنون البسطاء اختيارا.. مواطنون عايشوا ما اصطلح عليه بسنوات الجمر والرصاص في المغرب. وعلى غير عادة الأفلام التي تناولت تفاصيل التعذيب التي عاش على إيقاعها السجناء المعتقلون خلال سنوات الرصاص، إحدى أقبح المراحل التي عبرها المغرب، اختار المخرج العلوي التركيز على السجانين، الحراس البسطاء، وهم مواطنون أوهمهم «المخزن»، باطلا، بأن سجناء المرحلة ملحدون وأعداء للوطن قدموا من بلدان بعيدة لتخريبه. الفيلم، الذي وضع له، بتميز، الموسيقى التصويرية الفنان عادل عيسى، وأدت بعض مقاطعها المغناة المطربة رشيدة طلال، يصور مأساة الاعتقال السياسي، يحكي فظاعة يوميات السجانين في المعتقلات السرية، من خلال تسليط الضوء على علاقتهم بالسجناء والممارسات اليومية داخل السجن، والجو الرهيب الذي كان سائدا في المعتقل المشهور، حسب تصريح لمخرجه عز العرب العلوي، الذي يوضح أن «حضور المعتقلين نشعر بثقله داخل الفيلم، وهذا الثقل نشاهده على وجوه الحراس، ووجوه أقاربهم، ونكتشف تأثيره على نفسياتهم»، يقول المخرج الذي يؤكد أن الفيلم يسعى إلى حفظ جزء من الذاكرة المغربية. و«دوار البوم» تجمع سكاني بين جبال الأطلس الكبير، يقضي سكانه حياتهم في التناوب على حراسة سجن داخل قلعة كبيرة، يربطه بالدوار جسر معلق في الهواء على واد سحيق. شخوص الفيلم اختلفت مداركها وتفرقت بها السبل، واختلفت مصائرها، ودفعتها الأقدار إلى أن تكتشف حقيقة أن «دوار البوم» ما هو في واقع الأمر إلا سجن كبير يضم الجميع، السجناء والحراس وأسرهم.. بعد اكتشافهم أن السجن دخله أيضا أبناؤهم الذين اختفوا. الفيلم شخص أدواره بحرفية عالية كل من محمد الرزين وأمين الناجي وحسن باديدة وكمال كاظمي ونعيمة المشرقي وراوية وأسماء الساوري ومحمد بوصبع ومحمد الصوصي العلوي وكنزة فريدو وجمال لعبابسي ومحمد طوير الجنة وحميد نجاح وعبدو المسناوي. ويقدم الفيلم مجموع حكايا إنسانية اجتماعية، تدور في فلك الحكاية الأساس، من بينها حكاية فتاة متعلمة، تدعى وفاء، عاشت زمنا في المدينة، وعادت إلى دوار البوم.. تسعى إلى أن تحارب الأمية في أوساط أطفال دوارها، لكنها تواجه الجهل والعقليات المتحجرة، وترفض الزواج من شاب لا يعي واقعه، وهو أحد حراس المعتقل السري، وتفر في ظروف صعبة رفقة من أرادته شريكا لحياتها، قبل أن يلقى حتفه هو الآخر، وتنجح في تهريب ملف من ملفات المعتقل السري الذي عذب وقتل فيه شقيقها، إلى خارج الدوار. وعن أسماء سريوي، التي أدت شخصية وفاء في الفيلم، قال الناقد السينمائي فؤاد زويرق، إنها كانت مفاجأة الفيلم «تماهيها مع كل الشخوص، ودورها القوي في تفعيل دور حسن (أمين الناجي)، وجعله متكاملا وأكثر حيوية، جعلها مقنعة جدا وصادقة، وهذا ما أضفى لمسات رومانسية وأنثوية على الفيلم، الذي بفعل قصته وأحداثه لبس ثوب الخشونة والقسوة. أسماء سريوي ممثلة أبانت عن الكثير في هذا العمل، ورفعت سقف جودته التشخيصية، متحدية قوة أداء باقي الممثلين وشهرتهم وتجاربهم، فكان حضورها متساويا إلى حد كبير لمستوى حضورهم»، يقول الناقد عن الفيلم الذي شاركت فيه أيضا الممثلة القديرة نعيمة المشرقي. الفيلم كتب له السيناريو عز العرب العلوي لمحارزي، وكان في إدارة التصوير أندرياس سينانوس، وفي هندسة الصوت كريم الروندة، وفي المونتاج غزلان أسيف. وعن هذا الفيلم يقول الناقد السينمائي فؤاد زويرق في قراءة مفصلة له: «نادرا ما تصادف فيلما مغربيا تمتزج فيه أرواح شخوصه ببعضها البعض، وتتماهى فيما بينها بقوة لتمنحنا في النهاية فسيفساء جمالية قادرة على إمتاع المُشاهد، ومنح مصداقية أكثر لهذا العمل السينمائي أو ذاك، شخوص فيلم ‘‘دوار البوم''، للمخرج عز العرب العلوي، أخذوا على عاتقهم هذه المسؤولية، واجتهدوا في ترسيخ مفهوم المنافسة المتكافئة والعادلة بشكل استثنائي لا نعهده كثيرا في سينمانا. منافسة مطلوبة تصب في صالح العمل، وتتكامل مع باقي عناصره الإبداعية. لا يمكننا في هذا الفيلم الجزم بتميز هذا الممثل عن ذاك، فكلهم اجتهدوا وأعطوا ما في جعبتهم لصالح الشخصيات المنوطة بهم، لذلك، تجد لكل ممثل منهم شخصيته المتفردة بسحرها الخاص وتركيبتها المختلفة البعيدة عن النمطية السائدة حوله في باقي الأعمال، لنأخذ، مثلا، كمال الكاظمي الذي انسلخ عن شخصية حديدان في هذا الفيلم، تلك الشخصية الكوميدية التي لم يستطع التخلص منها حتى في أدواره الأخرى الدرامية. كمال الكاظمي في هذا الفيلم ظهر بشخصية جديدة لم يعهده بها جمهوره، شخصية العسكري حميدة المقرب من الكولونيل، وحامي أسرار المعتقل. شخصية تتأرجح بين الخير والشر، بين الظلم والعدل، بين الكره والحب، وهي شخصية مركبة سيكولوجيا، عرف الكاظمي من أين يمسك خيوطها، ويتلاعب بمفرداتها كما يشاء، الكاظمي كان بحق مميزا ومقنعا إلى حد كبير. حميد نجاح وصل إلى مستوى عال في تقمص دور الشيخ المجنون، مستوى لم أكن أتصوره إطلاقا حيث فاجأني شخصيا، لأن الدور الذي لعبه لم يتعد بضعة مشاهد معدودة، ودون حوار، تعبيراته الجسدية، التلاعب بملامحه وتناسقها مع حالته النفسية جعلته بصدق، ودون مجاملة، ممثلا مبدعا من الطراز العالي. محمد بوصبع، الذي أدى دور الكولونيل، كان من بين مفاجآت هذا الفيلم، فلم أتوقع منه ما شاهدته وما لمست منه. دور يعتبر القنطرة الرئيسة الرابطة بين باقي الشخصيات، وحسنا فعل عز العرب العلوي باختياره هذا الدور بالضبط. محمد بوصبع تعمق في شخصية الضابط وأعطاها من روحه الكثير، خصوصا أنها تميزت بمفارقة استثنائية، تجنح نحو السادية، ويظهر هذا في حبه وتعلقه القوي بكلبته، وصرامته وظلمه وتعذيبه لسجنائه وجنوده. هي مفارقة تناولتها الكثير من الأفلام، لكن في هذا الفيلم كانت شاهدا على تميز وقدرة ممثلينا على خوض غمار التجارب المركبة، وكذا قدرة بعض مخرجينا -وهذا استثناء- على حسم اختياراتهم وحسن إدارتهم الفنية، شاهدت لمحمد بوصبع أدوارا عدة، لكن في هذا الفيلم وصل إلى مستوى لم أعهده فيه من تألق وموهبة. محمد الرزين فقيه القرية العسكرية، كان قويا في أدائه بما يكفي للتأثير على المشاهد، إذ تقمص دوره بحيوية لم أعدها فيه، ربما لأنه وجد ما كان يصبو إليه من دور يُظهر فيه موهبته الحقيقية الكامنة داخله، تلك التي لم تعطاها الفرصة للظهور في أعمال أخرى. محمد الرزين وصل إلى قمة التقمص أثناء لحظة وفاة ابنه وتغسيله، حالة من الألم والمعاناة نقلها بصدق هذا الممثل الذي كان واحدا من أعمدة هذا الفيلم بامتياز. حسن باديدا، أو العسكري سعيد، ممثل يعرف كيف يَعْبُر من حالة نفسية إلى أخرى، وكيف يتلاعب جيدا بموهبته، ويوظفها في ترسيخ قدرته التشخيصية. في هذا الفيلم برهن مجددا على أنه ممثل بمقومات الممثلين الكبار، وخصوصا إذا وجد مساحة أكبر ومخرجا يؤمن به، وبقدراته ومواهبه، فمع كل دور جديد له أكتشف ممثلا آخر، وهذا ما يجعلني أثق في إبداعه القادر على تجاوز حدود هذا الوطن، فقد فعلها من قبل مع هشام العسري، وسيفعلها مستقبلا إذا أتيحت له الفرصة كاملة. أما بالنسبة إلى جمال العبابسي، الذي أدى دور الكابران حماد، فلم أكن متخوفا بالمرة من أدائه، فوقوفي على تجربته التشخيصية في باقي أعماله، جعلتني مطمئنا إلى تقمصه هذا الدور الاستثنائي، فتميزه في أدواره السابقة، ولو كان العمل المشارك فيه فاشلا، لم يجعل تفكيري يتجه إلى الأسوأ، فإما أن يتساوى مستوى أدائه مع ما سبق أو يعلو درجات، وهذا ما حدث بالفعل، إذ وصل بدوره إلى أعلى مستوياته، فأمام المنافسة القوية كان لا بد أن يُخرج كل ما يمكن إخراجه». أما آخر شخصية تحدث عنها الناقد فؤاد زويرق، فهي حسن ابن الفقيه، وهي الشخصية التي أداها بتفوق أمين الناجي، «هذا الممثل الذي برهن ويبرهن من عمل إلى آخر على أنه ممثل قادر على ربح الرهان، فإيمان المخرجين بقدراته منحه مساحات شاسعة، أهلته لأن يتبوّأ مكانته في السينما المغربية، وهو يستحقها بالفعل».