لا ألبس رداء الضحية هنا، ولا أنوي أن أعلق على حكم قضائي لم أتوصل بعد بنصه، وليس عندي غير منطوقه الذي يقضي بالبراءة من نشر خبر زائف، وبإدانة كاتب هذه السطور بغرامة 30 ألف درهم، وتعويض للوزيرين أخنوش وبوسعيد ب450 ألف درهم في الدعوى التي أقاماها سنة 2016 على جريدة «أخبار اليوم» بدعوى نشر خبر زائف والسب والقذف في حق سيادتهما، على خلفية الفضيحة السياسية التي أعقبت نشر تحقيق في هذه الجريدة، ونشر ملابسات تغيير الآمر بالصرف في صندوق تنمية العالم القروي، الذي أصبحت ميزانيته تفوق 5,6 ملايير أورو، من يد رئيس الحكومة، كما كان الآمر بالصرف في السابق، إلى يد وزير الفلاحة والصيد البحري، والأدهى من ذلك أن الأمر كله دار خارج علم رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، كما صرح بذلك أمام الملأ مرات عديدة. ماذا جرى في القاعة 7 بمحكمة عين السبع في الدار البيضاء؟ القاضي: أنت متابع بتهمة القذف والسب ونشر خبر زائف، في حق وزيرين في الحكومة، هما عزيز أخنوش ومحمد بوسعيد. ماذا تقول في هذا الاتهام؟ المتهم: خبر تغيير الآمر بالصرف في صندوق تنمية العالم القروي دون علم رئيس الحكومة خبر صحيح، باعتراف عبد الإله بنكيران نفسه في الوثائق التي أمام المحكمة، والمأخوذة من تصريحاته المتكررة حول هذا الموضوع الذي شكل أزمة في المجلس الحكومي. والقصة بدأت في أكتوبر عندما دخل مشروع القانون المالي إلى مجلس النواب، ولاحظت كصحافي بأن الآمر بالصرف تغير في نص مشروع القانون الجديد مقارنة بالقديم، فاتصلت برئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، آنذاك، على هاتفه الوظيفي، وسألته عن مبررات هذا التغيير في الأمر بالصرف، فأجاب بعفوية: «هذا أمر ليس في علمي، وأنت أول من يخبرني به». انتهت المكالمة هنا، وبعد ربع ساعة أعاد رئيس الحكومة الاتصال بالماثل أمامكم، وطلب منه ألا ينشر شيئا عن هذا الموضوع، لأن ذلك سيعقد الأمور وسط الأغلبية، ومن الأفضل حل هذه المشكلة بعيدا عن وسائل الإعلام، فقلت له: «يا سيدي، هل الخبر صحيح؟»، فقال «نعم»، فقلت: «سأنشره، فأنا لست معنيا بشؤون الأغلبية، أنا صحافي أنشر كل خبر صحيح، بغض النظر عمن سيستفيد منه أو من سيتضرر منه، فمن حق المواطن أن يعرف كيف تدور الأمور في حكومتك، وكيف يتغير الآمر بالصرف في صندوق ضخم، وأي نوع من العلاقة يربط وزراء الأغلبية برئيسهم»، فرد بجملته الشهيرة: «انتهى الكلام»… بعدها اتصلت هيئة تحرير الجريدة بعزيز أخنوش وزير الفلاحة، ومحمد بوسعيد وزير المالية، وفوزي لقجع مدير الميزانية، لأخذ وجهات نظرهم في موضوع حساس مثل هذا، وعن إمكانية وجود مراسلات حول هذا الأمر، وعن مدى مخالفة ذلك للدستور وللقانون التنظيمي لعمل الحكومة، لكن الثلاثة جميعا التزموا الصمت، ورفضوا التعليق على الحادث، فنشرنا التحقيق وتفاعلات الأزمة وسط المجلس الحكومي، وبعدها علقت على الموضوع في افتتاحية العدد الموالي، فما كان من السيد أخنوش إلا أن غضب، وقرر مقاضاة الجريدة، وطلب مع زميله في الحزب الأزرق تعويضا قدره مليار سنتيم، كما أوعز إلى شركة «سوناكوس»، التابعة لوزارة الفلاحة، وشركات أخرى أن تقطع عن الجريدة الإعلانات، كما صرح رئيس «سوناكوس» شخصيا بذلك لوكالة «فرانس بريس» في سابقة من نوعها لاستعمال إعلانات الوزارة أداة لعقاب الجرائد التي لا يروق خط تحريرها سيادة الوزير. بعدها طلب أخنوش وبوسعيد من بنكيران الإذن لمقاضاة الجريدة، لأن القانون ينص على ذلك، وبنكيران أعطاهما الإذن، ووزير العدل تكفل بإحالة الملف على النيابة العامة التي استدعتني، واستمعت إلى أقوالي، وقررت أن تحرك المتابعة القضائية، وها أنا أمام عدالتكم، لكن بالنسبة إلي كصحافي مهني، كل المعطيات التي احتاج إليها لكتابة تحقيق موجودة (الوثائق، التصريحات، التأكد من الخبر وتفاعلاته)، أما التعليق فهو حر مادام يلتزم بالقانون وأخلاقيات المهنة. القاضي: هل للمطالب بالحق المدني (محامي أخنوش وبوسعيد) من سؤال؟ المطالب بالحق المدني: نعم، سيدي القاضي، المشتكى به يقول إن التعليق حر، وهل من الحرية سب وقذف السي عزيز أخنوش، ابن المقاوم المعروف. إليكم التعابير التي نراها تشكل جريمتي القذف والسب وحتى التشهير، إنه يصف عمل الوزراء ب«القوالب»، ويصف السي عزيز بالملياردير، عوض أن يكتب لقبه الوزاري، ويتهمه بالجهل بالقانون والدستور عندما كتب «وهل سمع أخنوش وبوسعيد عن شيء اسمه الدستور الجديد؟»، ويتهم السي بوسعيد، ويقول عن وزير المالية «الحاج بوسعيد» تهكما منه عوض لقبه الوزاري، ويقول إنه ليس رجل دولة، ويشبه أخنوش بالقط الذي يحب أكل السمك، لكن لا يحب أن يبلل «رجليه» بالماء، هل يريد السي بوعشرين من أخنوش أن يترك ملايير صندوق التنمية القروية بين أيدي السياسيين ليلعبوا بها في الانتخابات. السي عزيز أخنوش رجل وطني، وهو لا يتقاضى أي درهم عن مهامه في الوزارة، وثروته معروفة الأصل عن والده، وسيرته في الحكومة يعرفها الجميع، لذلك يتشبثون به منذ ثلاث ولايات، وهذا الصحافي غير المهني جاء مكلفا بمهمة تشويه السي عزيز أخنوش، لكن مسعاه خاب (تلفظ السيد جنكل بعبارات خارج النص بفعل الانفعال لا ننقلها هنا حرصا على سمعته، فهو في النهاية يقوم بعمله كمحام ولو بحماسة زائدة). القاضي: ماذا يقول المشتكى به عما سمعه من المطالب بالحق المدني؟ المتهم: أنا أشكر الأستاذ جنكل على هذه المرافعة، وأطلب من المحكمة ضمها إلى وثائقي في هذا الملف، لأنها دليل براءة وليست دليل إدانة. أولا أنا كنت أبحث عن جواب للسؤال الرابع في قواعد كتابة الخبر (كان لدي الجواب عن ثلاثة أسئلة وهي: ماذا وقع؟ متى وقع؟ أين وقع؟)، ولم يكن لدي الجواب عن سؤال لماذا وقع ما وقع؟ أي لماذا أخفى أخنوش وبوسعيد أمر تغيير الآمر بالصرف في صندوق تنمية العالم القروي عن رئيسهما، وها هو المطالب بالحق المدني يتبرع علينا بجواب مفاده أن السي أخنوش لم يكن يرضى بأن يترك مليارات الصندوق في يد بنكيران مخافة استعمالها في الانتخابات التي كانت على الأبواب، أنا نفسي لم أجرؤ على اتهام أخنوش بأنه يريد أن يحجر على بنكيران وحزبه، وينزع منه الأمر بالصرف في غفلة من الجميع لأسباب سياسية! أما بخصوص الاتهامات التي وجهها إلي الأستاذ المحترم جنكل، فأنا لا أنفيها بل أتشبث بها، وألفت عنايته إلى أنه لا سب فيها ولا قذف، كما عرف المشرع المغربي السب والقذف في قانون الصحافة القديم والجديد. ما أورده المطالب بالحق المدني من تهم كلها نقد مباح، أما القذف فهو نسبة واقعة إلى شخص لو ثبتت في حقه لأوجبت المتابعة القانونية، كأن أقول عن شخص، مثلا، إنه سارق أو قاتل أو مغتصب، فإذا لم أثبت هذه الجرائم على الشخص المذكور بالأدلة، فأكون آنذاك مرتكبا جنحة القذف، أما أن أقول لوزير إنك لا تعرف شيئا عن الدستور، أو إنك ملياردير، أو إنك دسست لرئيسك وثيقة في القانون دون علمه، أو أن أصنف علاقات الوزراء مع بعضهم ب«القوالب»، فهذا نقد لا يجرمه القانون، وما الصحافة وما التعليق دون نقد وسخرية؟ أنا اتفق مع المعيار الذي قال به الأستاذ جنكل في التمييز بين النقد والقذف، عندما قال إن النقد هو الحديث عن الأغنية واللحن والكلمات والإيقاع، والسب هو نقد شخص المغني وشكله، وأنا أوافق على هذا التمييز، ولا أراني تحدثت عن شكل أخنوش ولا أصله ولا لونه ولا عرقه، ولا أي شيء من هذا، أنا تحدثت عن أفعاله كوزير، وحكاية القط مجاز لتقريب الصورة للمواطنين، وهذا معمول به في كل صحافة العالم، وحتى في شعر العرب وآدابهم، وإذا أصبح أخنوش مقدسا في هذه البلاد، فما عليكم إلا إخبارنا بالأمر. السيد أخنوش صاحب سلطتين، مالية وسياسية، وإذا لم يضمن القضاء للصحافة والإعلام الحق في مساءلته، والحق في نقده، والحق في تتبع كل نشاطاته، فإننا سنخلق منه شخصا intouchable. عندما يتقلد واحد مثله سلطة من هذا النوع، عليه أن يتقبل أصول اللعبة، وأن يقبل نقد الصحافة. إذا كان الملك محمد السادس، الذي يوجب الدستور توقيره والأعراف احترامه، أمر وزير عدله السابق بعدم متابعة الصحافيين الذين يخطئون في حقه، فنحن لا نطلب من السيد أخنوش أن يرتفع إلى هذا المستوى، لكن نطلب منه أن يتحلى بشيء من الروح الرياضية والروح الليبرالية، وألا ينزل إلى حد المطالبة بمليار سنتيم. قبل أن يأخذ ممثل النيابة العامة الكلمة، وقبل رد الدفاع المحترم الذي آزرني في هذه القضية بكفاءة وحرفية، رفعت الجلسة إلى موعد آخر. غدا نكمل…