نجحت القيادة التركية، و"الطيب رجب أردوغان" تحديدا، في إقناع دول منظمة التعاون الإسلامي للتوجه إلى "إسطنبول"، قصد تدارس قضية القدس، بعدما أصدر "دونالد ترامب" قرارا يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويحث خارجيته على نقل سفارة بلاده إليها عوض تل أبيب. والحقيقة أن الأجواء النفسية كانت جاهزة في مجمل البلاد العربية والإسلامية الأعضاء في المنظمة للاستجابة فوراً ودون تردد لهذه الدعوة، بسبب مكانة القدس في وجدان المسلمين، ولأنه قرار نوعي في تاريخ الصراع حول القدس، ولأن أيّاً من الرؤساء الأمريكيين السابقين، وهذا هو الأخطر، لم يمتلك جرأة الإقدام على مثل هذه الخطوة، علما أن مشروع الاعتراف تمّ الحسم فيه داخل الكونغرس منذ العام 1995. لم يكن الحضور على مستوى الرؤساء كبيرا وبارزا بما يكفي، إذ من أصل 48 دولة ممثلة في القمة، حضر شخصيا أقل من 20 رئيسا، في حين مثل الباقون رؤساء بلدانهم.. ومع ذلك، لم يحدث أن عرفت القمة وجهات نظر مختلفة بخصوص الموقف المبدئي الصارم من قرار الرئاسة الأمريكية، حيث رفضها الجميع، وانتقدها الكل بالقوة والصراحة المطلوبتين، واعتبرتها القمة برمتها عملا انفراديا غير لائق بدولة راعية للمفاوضات من أجل السلام في الشرق الأوسط، وفي فلسطين تحديدا. لذلك، حصل الإجماع، كما عبر عن ذلك البيان الختامي للقمة، حول عروبة القدس وإسلاميتها، وأنها عاصمة فلسطين، أو كما يجب أن تكون في شقها الشرقي عاصمة للدولة الفلسطينية، المعترف بها والمتعايشة إلى جانب إسرائيل. عبرت الكلمات الافتتاحية المتبادلة عن أن قضية القدس قضية محورية في الصراع العربي والعربي الإسلامي الإسرائيلي، وأن أي محاولة للمسِّ بها لن تجد طريقها إلى القبول والنجاح.. بل أفصح المتحدثون المتعاقبون في جلسة الافتتاح، عن أن القدس هي المبتدأ والمنتهى في حل القضية الفلسطينية، وهي المفتاح لإرساء السلام في الشرق الأوسط عموما. بل إن درجة عالية من الغضب والامتعاض مما عبر عنه قرار "ترامب"، لم يتردد المتحدثون في التعبير عنها صراحة، وبكلمات ومفردات قوية جدا.. ف "الطيب أردوغان"، بحسبه الرئيس الدوري للمؤتمر، وصف إسرائيل ب"دولة احتلال وإرهاب"، ناعتا القرار الأمريكي بكونه "يكافئ إسرائيل على أعمالها الإرهابية"، ليضيف بأن "القرار الأمريكي في حكم المنعدم الأثر، لأن اتخاذ أي قرار بشأن مدينة تخضع للاحتلال، كما هو حال القدس، يعتبر منعدم الأثر"، مختتما كلامه بأن بلاده لن "تتخلى أبدا عن طلبها بدولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية". وفي الاتجاه نفسه، جاءت كلمة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية "أبو مازن"، حيث شدد على المطالب الثابتة للفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة فوق تراب أراضي ما قبل 04 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، واصفا قرار "ترامب" ب"وعد بلفور جديد، يأتي بعد 100 عام على الوعد البريطاني". ففي الواقع كانت القمة ناجحة من حيث التعبير عن الرفض القاطع لقرار الرئاسة الأمريكية، وإعادة التأكيد على ما يمكن اعتبارها ثوابت لحل القضية الفلسطينية، وعلى رأسها مسألة القدس. كما كانت مُجمِعة على التمسك بالقرارات الدولية ذات العلاقة، ومبادرات السلام المطروحة دوليا وعربيا منذ ثمانينيات القرن الماضي.. بيد أن نجاح القمة على هذا المستوى، وهو أمر يُحسب في رصيد تركيا، ورئيسها "الطيب أردوغان"، لا يتوقف عند هذا الحد، لأن الهدف من القمة لم يكن محصورا في التعبير عن الرفض والغضب، لأن الشوارع العربية والإسلامية خرجت بالآلاف، فعبرت عن هذه الروح، وطالب نظمها وحكامها باتخاذ قرارات ملموسة لإفشال القرار والإرادة الأمريكية في فرض الأمر الواقع. ومن هنا يُطرح سؤال وماذا بعد قمة إسطنبول، وبيانها الختامي؟ ثمة أفكار متناثرة هنا وهناك، وغير متوافق حولها بما يكفي للإجابة عن سؤال المستقبل، أو سؤال ماذا بعد القمة؟ فهل يجب الإقدام على إجراءات عملية من طبيعة سياسية واقتصادية، من شأنها المس بالمصالح الحيوية لأمريكا وإسرائيل؟ وهل يحظى هذا الإجراء بالقبول من قبل الدول الأعضاء في المؤتمر الإسلامي، وأساسا الدول التي في المواجهة المباشرة لإسرائيل، لا سيما وأن بعضها تربطها اتفاقيات سلام مع هذه الأخيرة، كما هو حال مصر والأردن؟ ففي كل الأحوال لا تكفي نتائج قمة القدس لفرض احترام مكانة القدس وموقعها القانوني والرمزي. إنها تحتاج إلى مواقف ملموسة، فاعِلة ومنتجة لآثارها الإيجابية، وإلا سيمر وقت وتُنسى القمة، كما دخلت قمم كثير خبر كان، أي أصبحت جزءا من الماضي ليس إلا.