يوسف كرماح عهدنا أن الكبت آلية دفاعية وظاهرة لاشعورية عبارة عن شحنة مليئة بالعقد التي تختزن في النفس وتسيطر على حوافزها، وتمنع الذات من التعبير عن مكنوناتها السيكولوجية، لأسباب أهمها؛ الخوف والقمع والاكتئاب والانطواء والانعزال، ناهيك عن رسوبات سلطة المجتمع والدين والأسرة والقانون والسياسة في كثير من الأحيان. لكن الأمر أخطر مما نتصور حين ينفجر ذلك الضغط النفسي وتلك التراكمات المشحونة، فإنها تصبح مشكلا له تبعاته التي تؤثر على المحيط والمجتمع. أبرزها ظهور فيديوهات ومشاهد فضائحية مخلة بالأدب، تتمسرح في الأماكن العامة، وعلى جنبات المساجد والمقاهي والبحار، وبمحاذاة الوديان، وفي المدارس والمؤسسات الإدارية. ففي كل مرة يطل علينا شريط بطله مدير مؤسسة يمارس الجنس على مرؤوسته، أو أستاذ يعري تلميذته ويستغل سلطته لنهش براءتها وسذاجتها. أو فقيها، أي عالما بشؤون الدين وليس ذلك الذي يؤذن في المساجد ويقرأ الفاتحة وبعض الصور في المآتم والأفراح ويملأ بطنه حتى التخمة في الولائم، فذلك ظاهرة وحده. بل أقصد العالم والمثقف والمتشبع بأمور الدين العارف حدود الله، الذي يغتصب الأطفال بأعصاب باردة، والمتزوجات بخدعة ماكرة، والأخطر من هذا تطالعنا صفحات الجرائد بعدد من جرائم زنا المحارم، حيث يتمرد الأب على ابنته أو الولد على أخته أو على أمه والعياذ بالله، فهذا نتاج لكبت رافق هؤلاء طيلة سيرورة نموهم. حكاية معاناة مع الحب والعطف والحنان. لقد كان فرُويد محقا حين ربط الكبت بالنزوة الجنسية. وفي مجتمعنا هذا الذي ينشغل بأمور تافهة ويعرض عن الأمور الجادة، يبدو هنالك الكثير من أحاسيس الكبت والخوف والفشل في التعبير عن المشاعر والأحلام، وهذا واضح من خلال تعامل الأسر سواء المحافظة أو متفتحة، التي تحيط أمور المكبوتة بكثير من السرية والتكتم، وتضع وشاحا يحجب بينها وبينه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالجنس، باعتباره من الطابوهات المحظورة. وهذا مشكل يؤثر بشكل كبير على حياة الفرد سيما الناشئ، ومن الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى ظهور أمراض عصبية ونفسية. هكذا ينشأ الطفل يفتقر للحوار الجنسي، جاهلا لكثير من التحولات السيكولوجية والفسيولوجية التي تطرأ عليه. بسبب الخوف والخجل والجهل، ومن هذا المنطلق يحرص في كبره على اكتشافها بطرق شذوذية، يبحث عنها في الشارع وفي الأفلام الإباحية حيث لا يسع لأي أحد أن ينهره أو يكبس على الزر ويحرمه من مشاهدة ما يرغب بمشاهدته. وفي الكتب الرخيصة والمجلات العارية، فتنشأ معه سلوكات واندفاعات جنسية غير طبيعية، يتولد عنها ميولات جنسية غير سوية؛ اغتصاب، شذوذ، جريمة، إدمان على الكحول والمخدرات. وخطورة الكبت الجنسي ليس في ما هو غريزي وإنما في ما ينجم عنه من تدهور روحي ومعنوي، لما له من تأثير على السلوك الإنساني، ولهذا أراهن دوما على تنشئة الطفل تنشئة سليمة من أجل تقويم اعوجاج هذا المجتمع السقيم، لأن الطفل وحده من سيلقح شجرة هذا الوطن من أجل ثمار صالحة. والكبت كما هو معهود أنواع، فقط، اقتصرت في الحديث عن انفجارات الكبت اللاأخلاقية. وخصوصا الكبت النفسي والجنسي، اللذان من الواجب إصلاحهما في مراحل سابقة؛ في البيت، والمدرسة، ومن خلال ثقافة المجتمع وسياسته، فأي خلل في هذه المؤسسات سيحدث شرخا في الذات. ففي سنوات السبعينات عرف مجموعة من السياسيين والأدباء والفنانين موجة من الكبت أو الحديث الصامت ومناجاة النفس في منولوج رعب، حتى أصبح الفرد يخشى من نفسه. بسبب سياسة القمع التي طالت تلك المرحلة وما تزال رسوباتها إلى يومنا هذا، البعض أخذ يفجر مرضها اليوم في الكتب واللوحات والأفلام. والبعض الآخر في السياسة، بالتمرد على الشعب واستغلال النفوذ واستحمار المجتمع والركوب على ظهره نحو مساعي وغايات خاصة. ولقد أثبت علماء النفس أن للكبت عواقب خطيرة على نفسية الفرد، بحيث يقتل روح التمرد فيه، ويخضعه لإرادة السلطة، المهم، هذا ليس موضوعي، فأنا أستقصد الحديث عن الكبت الجنسي الذي استفزني بمجموعة من السلوكات اليومية المخجلة التي أضحت رتيبة. ففي شارع مثلا، قليل هم من تمر إمرة في الاتجاه المعاكس ولا يطاردونها بعيونهم الجائعة قبل أن يقوموا بمسح للواجهة، والغريب في الأمر، أنه لو اقتصر الشأن على فئة المراهقين والشباب لعدا ذلك شبه عاد، وإنما هذا الجوع إلى المؤخرات وترسيمات الخلفية استطال حتى الشيوخ المراهقين الكبار. فبعضهم يقوم بمتابعة حثيثة غارسا عينيه في مناطق اليباب في شبه غيبوبة شاذة بلا كلل ولا ملل، في يوم كنت شاهدا على موقف مضحك ومخز في نفس الوقت، كان رجل خمسيني يمشي في الشارع ولما أعيته وأنهكت عنقه وُفُود السُّوق والأفخاذ والمؤخرات، وقف واتكأ على الحائط واستراح في استرخاء وأخذ يعد المارات في غيبوبة لذيذة. إن هذا الأمر لا أخلاقي وسلوك سيء، وللأسف فهذا السلوك المرضي يتعدى العزّاب ليشمل حتى المتزوجين. فالذي حرم من ملذات الجنس في طفولته وزهد، يتعهر ويتصابى في كبره. أنا لا أشجع على الزنا وإنما أفسر المشكل، مشكل يعاني منه العالم العربي بأسره. وهذه حقيقة لا مناص منها. ثم إن هناك عاملا آخر وهو الحب، الذي يجعل المرء يغظ الطرف عن العالم الأخر/ الجسد. أقصد الحب الحقيقي. أما الذين يطلق عليهم لقب المتلاصقين وليس المتعاشقين فإنهم يبحثون عن اللذة لقهر فقر الحب بطرق شنيعة؛ في الحافلات حيث يستغلون الزحمة فينفثون كبتهم بالاحتكاك. في البحار حيث يكون الجو ملائما للالتحام. في زحمة الأسواق والأزقة التجارية الضيقة. في الطوابير الطويلة التي لا تنتهي، ففي وطني الطابور يخلص بعد دهر. في إدارة قد يقضي مكبوت وطره ويذهب لمنزله يتناول وجبة غذاء فيعود إلى نفس الطابور وينفث ما اختزن من كبت. والمعضلة الكبرى هي مقاهي هذا الزمن التي أصبحت ما إن تفتتح واحدة في الصباح حتى تمتلئ عن آخرها في المساء، ويتراص الجمهور المتتبع في الواجهة قرب ركح المارة، ويبدأ عرض تعرية أجساد النساء بعيون مريضة تنهش بوحشية. مظاهر الكبت لا تقتصر على الرجل فقط بل تتعداه إلى المرأة، وهي قليلة مقارنة مع نقيضها، فكل واحدة وكيف تفجر مكبوتها الجنسي. ربما اعتقادا منها أن الرجل هو من يمتلك ترياق هذا الكبت، ومن تداعيات ذلك أنها لا تتحرش بشكل هستيري كما هو الشأن بالنسبة للرجل، وتبدّد مكبوتها بطرق مختلفة، كاللباس الأزيائي/الاستعراضي المفضوح الذي يثير الغرائز. التعبير عبر الوسائط المعلوماتية. تناول المخدرات والكحول كتعبير عن التمرد، الميل إلى الثرثرة والشكاية، أغلبهن يفجرن المكبوت في البكاء حين يصبن بالإحباط الذي يحشرهن في دائرة واسعة من الأزمات النفسية التي ينتج عنها فقدان الرغبة في الحياة والبحث عن ملجأ العزلة. والبكاء بالنسبة لهن الدواء، ألا يقولون أن سلاح المرأة البكاء؟ هذا بالإضافة إلى الصراخ، والويل إذا صرخت، فإنها ستجمع قبيلة، كما أنهن يفجرن كبتهن في الرقص، فما أن يحرك صوت نشاز كمانه حتى تنتفض الأجساد مرتعشة. وهناك من اهتدين إلى الكتابة، فكانت الطبيب النفسي بالنسبة لهن والأذن الصاغية التي يفجرن ويبحن لها بمكبوتهن.