إن الملاحظ والدارس للعقد ونصف المنصرمين, يقف على المجهود التنموي الجبار والشامل الذي انخرط فيه المغرب على جميع الأصعدة. هذا المجهود لا يمكن أن يكون له بناء إلا على أساس من الثقة في أمرين : الثقة أولا في الذات وقدرتها على النهضة والتغيير, والثقة ثانيا في المستقبل الذي نستشرفه وفرصنا في بلوغه بنجاح. هذه الثقة القوية في الحاضر والمستقبل ثابتة في مغرب اليوم, في شتى المجالات التي يتقدم فيها بلدنا خطوات كبيرة إلى الأمام, وفي الإشعاع الذي صار بلدنا يحظى به في محيطه العربي, الإفريقي والدولي. وأحسن ما نعبر به على هذه الثقة هو قول الملك محمد السادس في خطابه التاريخي للذكرى 15 لتوليه العرش : "فطريقنا واضح، واختياراتنا مضبوطة. فنحن نعرف أنفسنا، ونعرف ماذا نريد، وإلى أين نسير". إنه إذا كان من الصعب أن نقوم بجرد شامل لكل الأفاق التي يحمل فيها المغرب اليوم دولة وشعبا مشاريعا جبارة – فهي تعم كل المجالات – فالذي يهمنا في هذا المقال هو أن نقف على واحد من أهمها, والذي أمكننا كمغاربة أن نفتخر به ونجعله رمزا وعلامة واضحة على قدرتنا كدولة وأمة على الإبداع والتفوق بين الدول والأمم. هذا المشروع يتعلق بميناء طنجة المتوسط وما حققه لبلادنا من قفزة عملاقة على مستويي اللوجيستيك والربط البحريين. إن ما أنجزه المغرب من خلال هذا الميناء العملاق لا يمكن أن نصفه إلا بالانتصار الكبير وغير المسبوق, يمكن مقارنته بمشاريع عملاقة على المستوى العالمي, غيرت وجه التاريخ في دولها, كقناة السويس وقناة باناما ومعبر لامنش وغيرها, كما نشاهدها اليوم في بلدان صاعدة كتركيا والصين وكوريا الجنوبية… ولا حاجة للتذكير بأهمية هذه المشاريع العملاقة كقاطرة للتنمية وشاحذة للحماس والثقة الوطنيين ونموذج للمحاكاة والبناء. لقد تمكن المغرب من خلال هذا الميناء, أن يتبوأ في أخر تصنيف برسم سنة 2014 لمنظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية المرتبة 16 عالميا في سلم الربط البحري. هذه المرتبة المتقدمة هي قفزة كبيرة بكل المقاييس, بالنظر إلى حقبة ما قبل هذا الميناء, قبل سنة 2004, حينما كان المغرب يتخبط في ذيل الدول على مستوى شبكة الربط البحري. وكحصيلة فرعية ذات أهمية مادية ورمزية قصوى لهذا التقدم, تمكن المغرب بموجب هذا التصنيف من تبوأ المرتبة الأولى من حيث الربط البحري على مستوى أمريكا اللاتينية وإفريقيا متقدما على منافسيه الأساسيين, مصر وجنوب أفريقيا, وصار ينتمي إلى الدائرة الضيقة للدول المتقدمة الأكثر ربطا على مستوى الملاحة البحرية الدولية, إذ يرتبط هذا الميناء ب161 ميناء عالميا و63 دولة من القارات العالمية الخمس, كما تبينه مجلة النقل البحري لمنظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية لسنة 2014. ولابد هنا من التأكيد على الآثار الايجابية الشاملة لهذا الإنجاز من خلال مساهمته عامة في النهوض بالتنافسية العامة لبلدنا, والرقي بجاذبيته الصناعية والسياحية والاستثمارية, ذلك أن مؤشر الربط البحري يشكل معيارا أساسيا لقياس مدى الاندماج على مستوى التجارة الدولية، يتم أخذه بصفة دائمة بعين الاعتبار لتقييم تنافسية البلد. إن هذا الإنجاز بما يشكله من نجاح باهر لابد من اتخاذه نموذجا مرجعيا, نقف عنده متأملين ومستخلصين للعبر والدروس, بهدف جعله رافعة ودعامة نفسية ومادية تزيد من ثقة بلدنا في انطلاقته وتقدمه, بالسير على نهج إطلاقه لمشاريع هيكلية عملاقة في شتى المجالات. فهذا الميناء نموذج للمشروع الناجح, حيث ما فتئ يفتح أبوابه للبواخر الدولية حتى وصل إلى أقصى قدرته الإنتاجية بسرعة قصوى. وقد دخل في طور التوسع من خلال إنجاز الشطر الثاني للميناء, ما سيقدمنا بالتأكيد مراتب أخرى في سلم الربط واللوجيستيك البحريين على المستوى الدولي, حيث سترتفع قدرة إنجاز الميناء من 2.5 ملايين وحدة إلى 8.5 ملايين ! ولعل الأهم في مسعانا لاستخلاص الدروس من هذه التجربة هو في فهمنا لقواعد إنجاح المشاريع والتفوق فيها, والتي يمكن تلخيصها في ثلاث مبادئ : الطموح أولا, الذكاء الاستراتيجي ثانيا والاحترافية في الإنجاز ثالثا. أما فيما يخص الطموح, فهو الدعامة الأولى لكل رؤية تروم السير نحو مستقبل أفضل. وعلى قدر الطموح. على قدر المجهود. ولاشك في هذا الباب أن المغرب رفع طموحه عاليا, حيث بعدما كانت حصة ميناء طنجة المتوسط في الربط البحري قبل شروعه في الاشتغال 0 في المائة, حدد المستثمر لنفسه هدفا كبيرا, تمثل في استقطاب ما يعادل 15 في المائة من خدمات إعادة الشحن في حوض البحر الأبيض المتوسط, مع ما استلزمه ذلك من استثمار ناهز 90 مليار درهم, كأكبر عملية استثمارية في تاريخ المغرب في مجال البنيات التحتية, امتدت إلى ما يفوق 5000 هكتار وما يناهز 000 200 منصب شغل مباشر وغير مباشر. أما الذكاء الاستراتيجي فيتلخص في القدرة على استشراف الفرص الاقتصادية الفريدة التي توفرها المؤهلات البحرية للمنطقة في علاقتها بمحيطها التجاري الدولي. فميناء طنجة المتوسط يقع على ثاني أكبر الطرق التجارية البحرية العالمية, طريق جبل طارق, التي تربط بين أكبر الأسواق إنتاجا وأكثرها استهلاكا, أسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية, إذ يمر عبرها ما يفوق سنويا مائة ألف باخرة تجارية. مع ما يمكنه الموقع الجغرافي للميناء من تحقيق تنافسية كبيرة في خدمات إعادة الشحن من خلال تقنية الوقت الأنسب – Juste à temps, حيث يدخل الميناء في خانة الموانئ ذات "0 / صفر مناورة". وفيما يتعلق أخيرا بالاحترافية في الإنجاز, فتتمثل في القدرة على تنزيل هذه الرؤية الإستراتيجية وفق المعايير الدولية المتعارف عليها إلى واقع ملموس, مع التفوق في ربط تعاقدات دولية مع شركات رائدة في مجال التجارة البحرية, على أساس قاعدة رابح – رابح, وذلك على طول كل مراحل إنجاز هذا المشروع. وهو ما يمكن اليوم ميناء طنجة المتوسط من الاشتغال بحرفية عالية, وتأدية خدمات ذات جودة دولية, كشرط أساسي للنجاح في محيط دولي, شديد التنافسية ومستمر التقلبات. *أستاذ جامعي، ورئيس المركز المغربي للتنمية والديمقراطية