كلما حل عيد الفطر السعيد أو عيد الأضحى الكبير إلا و انتابتني مع فرحة العيد و أجوائه المفعمة بالسعادة و الإيمان والاطمئنان شعور بالأسى على حال الأمة و هي تتخبط في مشاكلها في آخر سلم الرقي الحضاري في عصرنا. و حيث أني أتكلم عن الرقي فليس ما أقصده فقط هو الرقي المادي التكنولوجي و الاقتصادي فهذا جانب مادي محدود من الرقي كما أنه لا يعد محددا حاسما لتقدم المجتمعات و إنما ما أتحدث عنه هو الرقي الحضاري الحقيقي المنبني أولا على منظومة أخلاقية متكاملة و التي تعتبر وقود وروح أي تقدم و ازدهار. فالمنظومة الأخلاقية بما تتضمنه من مقومات وقيم إنسانية هي من تبني حضارة الشعوب، و من دون تلك الروح وذلك الوقود المشكل من القيم الأرقى تبقى المجتمعات مهما ضخم جيشها بلا أدنى قيمة. فالروح الأخلاقية و المنظومة القيمية هي التي تحدد قوة الأمة و درجة تأثيرها و فعلها، أما تعدادها مهما كان ضخما فليس محددا لنصرها وإذا أردنا أن ندرك الأمر ونقربه للأفهام نذكر آيات القتال الواردة في القرآن وما تحدث عنه الله تعالى من أهمية الروح الإيمانية في تحقيق النصر بصرف النظر عن العدة و العدد فقال تعالى: ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) "البقرة 249" وهذا يعني بالمفهوم المخالف أن الأعداد الكبيرة من دون طاقة إيمانية هائلة لا تستطيع تحريك جسم الأمة الضخم قيد أنملة بل يصير عالة بوزن زائد يعيق الحركية الفاعلة بالضبط كهيكل سفينة كبيرة و ضخمة و ربما ذات رونق ولكن لا تتحرك شبرا واحدا إذا ما انعدم الوقود و الربان المحنك. مما سبق يمكننا التحدث عن مفهوم "الغثائية" الخاص و الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مرحلة من مراحل آخر الزمان ولعلها مرحلتنا فقال الرسول الكريم: عن الامام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وأبو نعيم في حليته من حديث ثوبان (رضي الله عنه) انه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :(يوشك ان تتداعى عليكم الامم كما تتداعى الاكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة يارسول الله؟ قال (صلى الله عليه وسلم): بل انتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب اعدائكم منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وسلم) : ((حب الدنيا وكراهية الموت)). و ما يبعث على استشعار هذا الواقع هو التأمل في تلك الحشود في صباح العيد، و الحق أن ذلك المشهد يشعر بالفرحة و المهابة و الأمل نظرا لكثرة سواد الأمة، و كيفما كان الحال فحضور كل تلك الحشود من نساء و رجال و أطفال للمصلى في جو إيماني مفعم بالخشوع و التذلل لله أفضل بكثير ممن يؤمون الحانات و الخمارات و الحفلات الماجنة. و لكن بالتأمل بشكل أعمق في حال مجتمعاتنا في عمقها الروحي و بعدها القيمي الأخلاقي نجد من المشاكل والمعضلات و الأزمات الاجتماعية و النفسية ما لا حصر لها، مما يعمق من جراح الأمة ويزيد من مشاكل المجتمع فباستثناءات محدودة فإن المجتمع باتت تسوده قيم الخيانة و الغدر بمختلف الأشكال، غياب أو ندرة قيم من قبيل: نكران الذات، التضحية، التضامن و التعاون الحقيقي اللامشروط، الوحدة ضد الآفات و الأزمات الاجتماعية، غياب قيمة الإخلاص في القول و العمل عموما فلا تكاد تجد من يخلص القول و يصدق الحديث، أما الإخلاص في العمل فبات عملة نادرة لا من حيث إخلاص النية لله و للواجب و لا من حيث الاتقان و الإكمال و الإنتاج، إلى غير ذلك مما تتعذر الإحاطة به في مقال صغير كهذا. لكن كما أن الفئة القليلة بالإيمان تغلب الفئة الكبيرة فإن المقال الصغير المفعم بالصدق و القصد الحسن و الرغبة في شحذ الهمم الفكرية لتتفكر في مشاكل الأمة الحقيقية قد يبلغ بفضل الله ما لا تبلغة مجلدات قد تكون جوفاء و فارغة. وما أرى التعجيل به هو إجراء مراجعات حقيقية لمنظومتنا القيمية على أساس الرجوع لمعينها الصافي من تراث الأمة الاسلامية الثري، و كذا العمل على تنظيف القنوات التي تنتقل إلينا عبرها ثم الانخراط في أوراش حقيقية لتفعيل قيمنا و إعمال معانيها العميقة في تعاملاتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و في كل المجالات، و ذلك عن طريق التربية الإيجابية للنشء و المبنية على ترسيخ الهوية الأصيلة المؤسسة على منظومة أخلاقية أساسها الدين الصحيح المكتمل الذي انتقى من كل ديانة و حضارة و ثقافة زبدة قيمها و أخلاقها في إطار مكتمل منضبط.